[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

اليمن.. عبقرية المكان ولعنة الزمان!‏

في تاريخ الأمم دروس وعِبرّ عربا وعجما وبربر، ويربط علماء الاجتماع بجدلية قدسية ‏المكان وتداخلها بعبقرية قاطنيه، وقد يتولد الإبداع وآنذاك تنشئ الحضارات، فتلاقح الثقافات ‏وتلامس الحضارات من طبيعة المجتمعات الحضرية حتى وأن كانت في أصقاع متباعدة وفي ‏أسفار التاريخ غدا اليمن السعيد أسطورة تداولتها الأجيال في التاريخ كما في الأساطير، ‏فطريق الحرير كانت تقود إلى تخوم الصين شرقا، بينما عرفت طريق البخور إلى اليمن جنوباً ‏كما ذكر القرأن رحلة الشتاء والصيف(لليمن والشام) وتلازم تاريخهم بالفتوحات شرقا وغربا ‏حتى حدود بلاد الفرنجة في شمال الأندلس، وفي الهجرة تطبعوا بالتجارة من سواحل إفريقيا ‏وحتى بلاد الملايو في شرق أسيا..‏

‏ اليمن الذي يقع بين بحار وصحاري لم يمنعه من التفاعل مع الآخر خارج حدوده، وهو ‏بموقعة الجيوبلتيكي يتحكم بمداخل أهم طرق البحار، وكان عرضه لأطماع وطموحات ‏حضارات سادت ثم بادت، ابتداء بالأحباش ومن ثم الفرس وحتى الرومان الذين وصفوها ‏بالعربية السعيدة مرورا بالعثمانيين وقوى غربية أخرى، ربما ولدت هذه المعادلة رؤية ‏انعزاليه لحكام اليمن عبر التاريخ، وانعكس ذلك في ضمير وذاكرته الجمعية سواء (الحَضرّ ‏أوالمَدرّ) ففي مُدنهِ كما في سائر البلدان أحيطت بأسوار وفي ريفه تطبعت عقلية ساكنيه سوى ‏في طراز وموقع البيوت والقرى المحصنة فوق قمم الجبال..‏

‏ ومنذ مطلع القرن الماضي شهدت المنطقة تحولات تحررية واستقلالية وكان حكام اليمن في ‏الخمسينيات وحتى مطلع الستينيات تحت تأثير هذه الرؤية المحافظة الانعزالية، دون الاعتبار ‏لضرورة التفاعل مع الآخر الخارجي وفق رؤية مدروسة وهو ما سارت بِه أكثر البلدان ‏المحافظة في المنطقة إلى اليوم ولو بصورة متفاوتة.‏

‏ ولعل صدمة الحداثة وانفتاح اليمن على العالم في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي ‏بعد انغلاق طويل تزامن مع اغلب بلدان المنطقة قد خلق جملة من التعثرات والإخفاقات ‏متلازماً مع اندفاع قوى وطنية قليلة الخبرة وسعيها للتغيير الريدكالي في الوقت الذي لم تحمل ‏مشروع أو رؤى للتغيير في مواجهة مخططات قوى خارجية جعلت من اليمن محورا ‏للاستقطاب وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية،قسمت صف القوى الصاعدة، وهكذا كان قدر ‏اليمن منذ نحو عقود مضت، فقد تطبع اليمن في أسوأ محطات مسيرته في أكثر من علامة ‏فارقة جعلته على حافة الهاوية..‏

‏ وبقدر ما تكون قدسية المكان مصدر الهام فقد لازمه من حيناً لأخر لعنة الأزمات، وتدفع ‏بعض البلدان الثمن غاليا من استقلالها ورفاهيتها وأمنها عندما تكون ضحية صراع السلطة ‏ومراكز القوى من جهة وبينها وتربص العامل الخارجي وعلى مدى أجيال، وبأي صيغة ومنذ ‏التسعينات وغداة نهاية الحرب الباردة، ظهرت بؤر توتر مزمنة في العالم الإسلامي والعربي ‏كأفغانستان والعراق ومؤخرا البلدان العربية التي شهدت بما عرف ببلدان الربيع العربي قبل ‏ما يقارب الثلاث سنوات .‏

ظل اليمن منغمساً في همومه الداخلية منذ ما يقارب القرن عندما استقل اليمن من الاحتلال ‏التركي وأكثر من نصف قرن لثورة الجنوب التي انتزعت الاستقلال من أنياب الإمبراطورية ‏التي لا تغيب عنها الشمس، وكانت إطاحة مجموعة مغامرة من المؤسسة العسكرية بالنظام ‏الملكي الذي اتبع سياسة العزلة عن العالم كانت حينها مبررا كافيا لاندلاع ثورته ولكن الثوار ‏رغم وطنيتهم ونقاوتهم لم يتعامل الثوار برفق وتسامح مع عامة الشعب وكان للثورة لاشك ‏أخطائها وهو الأمر الذي غير مزاج اليمنيون في موقفهم من النظام الجمهوري وقد أتت ‏المصالحة بين الفريقين متأخرة وفي الوقت الضائع ناهيك على أن من قاموا بثورة1962م ‏كانوا غير متجانسين فكريا ويجمعهم عدم وجود رؤية موحدة للمستقبل، فمعلوم بأن انجح ‏الثورات هى تلك التي بالإضافة لتوفر الظروف الذاتية والموضوعية لابد من تهيئة مشروع ‏وقيادة فذة استثنائية تقود هذا المشروع ويحُظى بتوافق الأمة، وهذه الخصائص لم تكن متوفرة ‏في ذلك التحول الهام مما استدعى للتدخل خارجي وكانت بداية لدخول اليمن بؤرة لصراع ‏إقليمي ودولي وهو الأمر الذي خلق جملة من الإشكالات لم ندرك أبعادها وخطورتها وتأثيراتها ‏إلا بعد عقود فكانت أيضاً بداية لشق الصف الوطني الذي استهل مسلسل من الأحداث الدرامية ‏التي شهدتها اليمن على مدى عقود مضت فما أن يخرج من أزمة يلج إلى أزمات وهكذا ‏دواليك، ففترة انتقالية تلد أخرى، ويعزى الخطاء الأول في إقحام الجيش بالسياسة وتغييب ‏القوى المدنية، ومن تجارب الجمهوريات العربية يستنتج بأنه لا يفلح قوم ولو أمرهم ‏للعسكر..!‏

وبداهة فأن موقع اليمن الجغرافي وقربه من منطقة حيوية في محيطة كان سبباً لتكالب قوى ‏خارجية منذ قرون خلت، ابتداء من أطماع وطموح ابرهة الحبشي واستعانة سيف بن ذي يزن ‏بالفرس لطردهم وحلو مكانهم ولم ينقذ اليمن إلا دخولها حظيرة الإسلام وبعدها انهار عرش ‏كسرى ، ولعل التاريخ يعيد نفسه ولكن بصيغ أخرى فقد غدا اليمن احد بؤر التوتر الأمني ‏الإقليمي والدولي، تجلت التحولات الإقليمية مطلع القرن المنصرم وفي منتصفة والذي شهد ‏محطات هامة في اغلب بلدان المنطقة والذي تمثلت ببداية استقلال بعض البلدان ونشوء الدول ‏القطرية وتزامن ذلك بظهور النفط في جواره تباعاً كل ذلك سطر فصلا جديدا من العلاقات ‏الإقليمية لتلك البلدان..‏

‏ وفي تاريخ اليمن السياسي الحديث طرأت أزمات متلاحقة خلال العقود الماضية وحالات ‏عدم الاستقرار التي لازمت اليمن والصراع الداخلي بين شطرية قبل الوحدة وبعدها فقبل ‏التسعينيات كانت النخبة الحاكمة فيه مستلهمة وتحت تأثير أيدلوجيات مغايرة لواقعة ‏الاجتماعي فتصارعت القبائل الماركسية فيما بينها في أحداث مطلع العام 1986م المؤسفة ‏وحتى بعد وحدته في العام 1990 حيث دخل في سلسلة من عدم الثقة بين أطراف صانعي ‏الوحدة فكان إبطالها ينظر كل طرف برؤية أنانية اقصائية وهو الأمر الذي انعكس على أحداث ‏لاحقة أضفت بتداعيات م اعُرف بثورات الربيع العربي الذي كان اليمن سباقاً في الاحتجاجات ‏منذ 2007م.‏

صحيح بأن سياسة اليمن الخارجية قبل الوحدة كانت عرضة للاستقطاب الدولي انعكس على ‏شطريه بفعل الحرب الباردة، فكانت فرصة أفول نجم النظام الدولي الثنائي القطبية بإعلان ‏نهاية الحرب الباردة وأحدثت جملة تحولات إقليمية في المنطقة تحديدا منها غزو صدام ‏للكويت وتبعات وتداعيات ذلك الحدث الجلل لعقود لاحقة، حدث ذلك فقط بعد بضعة أسابيع ‏من وحدة اليمن التي وفرت لها تلك التحولات الدولية مناخاً ايجابياً لإعادة وحدتها، ولكن بدلا ‏من تكون تلك الأحداث المزلزلة عامل وفاق للرؤى غدت عامل مزايدات تصب في غير ‏غاياتها المفترضة .‏

‏ ومنطقيا كان يفترض تراجع حدة الاستقطاب غداة وحدة اليمن لغياب معطياته الدولية منذ ‏مطلع التسعينيات ولولادة دولة واحدة كبيرة ولكن أيضا ما حدث كان عكس المتوقع فضعف ‏كيان الدولة الوليدة بسبب تناحر أقطاب السلطة وضعف مشروعيتهم فقد انعكس على التأثير ‏الخارجي في صنع القرار في سياسته الداخلية والخارجية، كان المؤمل أن يبدأ فصل جديد في ‏سياسة اليمن الخارجية ولكن كان لصراع قيادة الدولة الفتية التي دخل كل منهما بحساباته ‏الخاصة بنية الاستفراد بالسلطة وإقصاء الآخر فقد كانت السياسة الخارجية اليمنية إحدى ‏مفردات أجندات الدولة الجديدة مجرد أمنيات وحبراً على ورق وأن حدث تحرك ما فكان شكليا ‏أكثر منه مضموناً. ‏

فكان يفترض مثلا وضع خطط واستراتيجيات جديدة تختلف عما كان بمعنى تطبيق سياسة ‏التوازن في العلاقات الخارجية، كل ذلك الارتباك وعدم الاستفادة من الفرص التاريخية يُعزى ‏إلى سؤ أداء القائمين بمشروع دولة الوحدة والذين دخلوها برؤى متباينة يجمعها نية الاستحواذ ‏والإقصاء والأنانية الفضة، وهو الأمر الذي انعكس بعد شهور قليلة في مطلع التسعينيات غداة ‏تلك الوحدة الموؤدة .‏

وكنتيجة للتركيز فقط على الحفاظ على السلطة بعد إزاحة الخصوم من رفاق الوحدة فأن ‏النظام السابق لم يستفيد من الاستفراد بالحكم فاتجهت أحلامه للتوريث ناهيك عن أخطاء ‏وتجاوزات لا تحصى ولامجال هنا لسردها حيث كان همه فقط إسكات معارضة الداخل ‏وإرضاء الخارج الإقليمي والدولي وكله على حساب سيادة القرار اليمني.‏

ومن هنا بداء مسلسل الارتهان للخارج ليبدو على ماهو عليه اليوم وهو نتاج أخطاء وتراكم ‏سياسات فاشلة منذ التسعينيات وتحديدا بعد حرب 1994 م فحرص القيادة اليمنية آنذاك على ‏استمرار النظام كان على حساب استقلالية القرار اليمني، ومن هنا فأن تعثر المرحلة الانتقالية ‏سواء في النخب المتحاورة منذ مارس الماضي وحتى الان فيما عرف الحوار الوطني أو ‏الحكومة الائتلافية فكيف يطلب منها صنع المعجزات وهى التي أتت على تركة من الفساد ‏المطلق وفي ظل قوى متربصة من الحرس القديم. ولعدم وجود رؤية يمنية إستراتيجية ‏لمقومات النهوض التنموية وعدم استطاعته على تجاوز حالات الفقر والعوز ليس لندرة ‏الموارد ولكن لسوء إدارة الدولة فهناك بلدان عربية شحيحة في مواردها ومع ذلك في ظروف ‏اقتصادية أفضل نسبيا ولكن الأخيرة يعزى نموها المستمر إلى أوضاعها المستتبة سياسيا وهو ‏الأمر الذي يفتقده اليمن للأسف. فاليمن في سلسلة متواصلة من حالات عدم الاستقرار ‏والأزمات المولدة لمزيد من عدم التوافق الداخلي وتداعياته الخطيرة على الأمن الإقليمي، في ‏السنوات الأخيرة للأسف غدا المجتمع الدولي بما فيه دول الجوار لا يرون في اليمن سوى من ‏المنظور الأمني فغدا اليمن مرتعا خصبا لأنشطة إرهابية جلها استدرج في السنوات الماضية ‏من جواره وكأنه موكل إليه مقارعة تلك الفلول الإرهابية للقاعدة نيابة عن المجتمع الدولي ‏وبلدان الخليج تحديدا..‏

كما أن مساندة الغرب الاقتصادية لليمن تنحصر في بعضها في الجانب الامني وعلى حساب ‏كرامة وأستقلال القرار اليمني ولعل ابسط مثال على ذلك هو الطيارات بدون طيار، وكأنها ‏مقايضة الدم اليمني بمساعدات شحيحة فالرؤية الأمريكية لليمن محصورة في أهداف آنية ‏وتركز تحديدا على هذا الجانب ففي السنوات المنصرمة تكاد المساعدات من واشنطن تتمحور ‏في الجانب الأمني والتدريب ومراقبة السواحل اليمنية ونحو ذلك وكأن معضلة اليمن فقط ‏تتمحور في الإرهاب والقاعدة غير مدركين بأن انهيار الاقتصاد وتزايد أعداد العاطلين الذين ‏يشكلون اكبر بطالة في المنطقة تعد مرتعا خصبا لنشؤ حركات التطرف يأتي ذلك مقرونا ‏بضعف سيطرة الدولة في كل أراضيها وانشغالها بهموم أخرى ومن هنا فأي مؤتمر دولي ‏مستقبلي لمساعدة اليمن ينبغي أن يسلط الضوء على تبعات انهيار الدولة اقتصاديا وضعف ‏الأداء الأمني ويحتاج اليمن مزيداً من الدعم الدولي أشبه بمشروع مارشال لكي يستعيد اليمن ‏أنفاسه ويهيئ لبيئة استثمارية لتحرك عجلة الاقتصاد، وإجمالاً تُلخص هموم وآهات اليمنيون ‏اليوم على نخبة متحاورة تمثل ألوان الطيف السياسي والذين وصلوا إلى طريق مسدود، فهل ‏تغلب الحكمة اليمانية بعد أن تفرقت أيدي سباء ويخرجون برؤية تفاجئ العالم بأنهم كما قال ‏رسول البشرية (أتاكم أهل اليمن هم ارق قلوباً وألين أفئدة الإيمان يمان والحكمة يمانية) !‏

زر الذهاب إلى الأعلى