يبدو أن خيار الصمت الذى انتهجته حكومة الوفاق الوطني خلال الفترة الماضية تجاه التدهور الأمني وما نتج عنه من انفلات وفوضى واغتيالات ممنهجة لعدد من القيادات العسكرية والأمنية، إلى جانب عمليات الاختطافات والتقطعات والنهب بالإكراه التي تصاعدت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ..
لم يعد يجدي ولم يعد من الممكن تفسير ذلك الصمت على أنه نابع من حرص الحكومة وأجهزتها الأمنية على عدم الانجرار وراء من يسعون إلى إخراجها عن دائرة الأولويات وإشغالها في حروب ومواجهات متنقلة، في وقت هي أحوج ما يكون إلى التركيز على المهام المرتبطة بالمرحلة الانتقالية والتهيئة لإنجاح مؤتمر الحوار الوطني، لان صمتاً كهذا أضحى غير مقبول، أو مستساغاً حتى من قبل أعضاء الحكومة نفسها، بعد أن امتدت يد الإرهاب والإجرام يوم الخميس الماضي إلى أهم موقع سيادي في الدولة عبر الهجوم البشع والغادر الذي استهدف مجمع وزارة الدفاع في قلب العاصمة صنعاء، وهو ما استفز مشاعر كل اليمنيين الذين شعروا للمرة الأولى بأن كل يمني صار بالنسبة للجماعات الإرهابية عدواً، لذلك فهو من يصبح لديهم مشروع قتيل مؤجل.
وبعيداً عن كل التحليلات التي اتخذت طرائق عدة في البحث عن ملابسات ذلك الحادث الإجرامي الذي أودى بحياة العشرات من الأبرياء والدوافع التي تقف خلفه والجهات المتورطة في تنفيذه والقصور الأمني الذي سمح بذلك الاختراق لموقع سيادي ظن الجميع أنه محصن من أي خطأ مقصود أو غير مقصود، فإن مجرد التفكير باستهداف ذلك الموقع من بعض القتلة وأعداء الحياة إنما كان بمثابة رسالة واضحة بأن معركتنا مع الإرهاب أصبحت جبهة مفتوحة مساحتها البلد بأكمله، ولذلك فإن ما يحسب للرئيس هادي هو مسارعته إلى زيارة مجمع الدفاع بعد لحظات من الهجوم المباغت الذي تعرض له مستشفى المجمع، حيث أنه وبذلك التصرف الحكيم والشجاع عمل على إعادة الطمأنينة إلى نفوس المواطنين، ليؤكد بذلك ليس فقط على جديته كرئيس للبلاد، ولكن وهو الأهم في انعكاس ما اتخذه من قرارات والتي تجلت في تشكيله بصورة عاجلة للجنة للتحقيق في ذلك الحادث والتي أظهرت في تقريرها الأولي أن من قاموا بذلك الهجوم الإجرامي هم عناصر إرهابية، غالبيتهم يحملون جنسية دولة شقيقة مجاورة.
لابد أن عملية بهذا الحجم والتخطيط هي من أعادت إلى ذاكرة الكثير من اليمنيين هواجس ربما تكون قد غابت وتلاشت من الأذهان، بعد نجاح الدولة في بسط نفوذها وتسجيل حضورها في مناطق كانت خارج سيطرتها وتحت قبضة الجماعات الإرهابية.
وعليه إذا ما كانت طبيعة ورمزية المكان الذي استهدفه الهجوم الأخير قد قرع جرس الإنذار بقوة وأعطى إشارات واضحة على أن عناصر الإرهاب بدأت تقترب من الأهداف الخطيرة، فإن الكشف عن تفاصيل وملابسات الهجوم على مجمع الدفاع خلال المدة التي حددها الرئيس والتي لم تتجاوز أربعاً وعشرين ساعة كفيل بإعادة الثقة بقدرات الدولة اليمنية وأساليب مواجهاتها لظاهرة الإرهاب وتجفيف منابعها كهدف لن يغيب عن صانع القرار، لما في ذلك من ضرورة تفرضها مقتضيات حماية أمن الوطن والمجتمع، وأن التحدي الذي أفرزته عملية الهجوم على مستشفى مجمع الدفاع قد ولدت معها إرادة سياسية ووطنية على التوقف عند المعطيات التي أسهمت في تنامي ظاهرة الإرهاب والتأمل في أسبابها بعيداً عن التعاطي السياسوي ضيق الأفق، باعتبار أن تكريس مثل هذا المنطق لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يوحد الجبهة الداخلية في مواجهة التحدي الأمني، بل إن تقاطع المواقف بين القوى السياسية على هذه الجبهة لا يخدم سوى الجماعات الإرهابية والأطراف التي تخطط لإشاعة الفوضى والاضطراب في اليمن، وليس صعباً على المراقب أن يلاحظ أن هناك تناسباً طردياً بين تأزم الأوضاع السياسية والتداعيات الأمنية.
وفي الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إلى تكثيف الجهود لمواجهة الإرهاب الذي بات يستهدفنا جميعاً، فإنه لا يكفي قط الحديث عن مكامن الضعف داخل المؤسسة الأمنية والتي وإن كانت بعض جوانبها معلوماً منذ فترة طويلة للكثير من المعنيين والمراقبين، إلا أن ما حدث خلال الأشهر الأخيرة قد كشف عن أن أبعاد المشكلة أكبر بكثير مما يمكن لأشد المتشائمين أن يتخيله، فالحقيقة أن الخلل الجسيم في هذه المؤسسة يبدأ منذ مراحل الإعداد الأولى للمنتمين إلى هذه المؤسسة والطريقة التي تدار بها، الأمر الذى جعل منها غير قادرة على تطوير نفسها بذات الطريقة التي تتطور فيها أساليب الجريمة.
ومما سبق يتضح أن إصلاح المؤسسة الأمنية أصبح شرطاً أساسياً وجوهرياً، خصوصاً في هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ اليمن، إذ أن المضي في عملية الانتقال السياسي والمجتمعي بعد مؤتمر الحوار الوطني سيكون في غاية الصعوبة في ظل غياب العقيدة الأمنية الوطنية التي يفترض فيها أن تحمل تصوراً واضحاً ودليلاً يمد الفاعلين الأمنيين في الدولة بإطار من الأفكار حول أعداء الأمن وطرق مواجهتهم والمنهجية التي يمكن من خلالها إسقاط مخططات دعاة الفوضى والحيلولة دون الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم الدنيئة.
وبالتالي فإن عملية الهيكلة لوزارة الداخلية والأجهزة التابعة لها، وما لم تفضِ إلى بناء قوة أمنية محترفة ومستوعبة لوظائفها واختصاصاتها والمهام الموكلة إليها بشكل صحيح وسليم، فإننا الذين قد نكتشف وبعد كل ما أنفقناه من أموال وجهود أن تلك الهيكلة ستبقى مجرد مصطلح فارغ من المضمون والمحتوى ولا علاقة له بتطوير الجانب المهني والاحترافي لرجال الأمن، وهي مسألة تحتاج إلى إرادة سياسية بعد أن ظلت مثل هذه الإرادة للأسف غائبة في الحقب السابقة، الأمر الذي لم تتمكن معه هذه المؤسسة من تخطي عثراتها والخروج من عنق الزجاجة والانتقال إلى واقع أفضل تحكمه الأساليب العلمية والحديثة والأفكار الخلاقة التي لا مجال فيها لتكرار الخطأ.
وأياً كانت الحقائق التي ستنتهي إليها لجنة التحقيق بشأن الهجوم الإرهابي الغادر الذى استهدف مجمع وزارة الدفاع، فإن السؤال الأهم هو: لماذا، وكيف يسمح شعب لنفسه أن يكون شريكاً في سفك دماء أبنائه إما بالتستر على المجرمين الذين لا يمتون إلى الإسلام ولا إلى الإنسانية بصلة، أو باحتضان قاتليه والقبول بأن يتخذ موقفاً مزدوجاً يدفع ثمنه كل يوم على هيئة ضحايا انضموا إلى قافلة الشهداء؟.. ولماذا، وكيف يغمض شعب عينيه عن خطر محدق به ويسقط عن نفسه المسئولية في مواجهة هذا الخطر مكتفياً بالركون على أجهزة الأمن التي، وما لم تجد تعاوناً من المواطن فإنها لن تستطيع تجاوز الثغرات التي تعاني منها، وهي ولا شك ثغرات شكلت بوابة العبور لكل الاختراقات الأمنية السابقة التي وجدنا أنفسنا أمامها مكشوفين دون غطاء قبل أن نصحو على انفجارات الخميس الدامي التي عرفنا من خلالها أننا أمام إرهاب أعمى يراهن على تدمير حياتنا بإحداث نوع من الشقاق بين المواطن ومؤسساته الأمنية؟!. اخبار اليوم