في أجواء مُحبطة بتداعي الأوضاع الأمنية مقرونة بتراجع الحالة الاقتصادية والخدمات في ظل أجواء عدم التوافق وانسداد الأفق السياسي بتعثُر الحوار الوطني المفترض انتهائه قبل أكثر من شهرين والذي اخفق حول جزئية مستقبل شكل الدولة اليمنية وهل ستكون بإقليمين أو أقاليم وكأن كل هموم اليمن قد اختزلت في الحلول السحرية (الفدرالية) ، يتزامن ذلك في تآكل الدولة نفسها والتي قد تفضي لإنزلاق الوضع برمته من سيء إلى أسوأ ويعم الفوضى والإرهاب ، في هذا الأجواء ينهمك ساسة اليمن المفلسون في المحاصصة المقيتة التي تقوم عليها (حكومة الوفاق) اليوم ويريدونا للغد تقاسم للمغانم وإلا ماذا يعني عدم اتفاق (المفاوضون) وليس المتحاورون ، لما يقارب العام ، وقد يتمخض (حوار الطرشان) ليلد انفصالا ناعماً وكأنه إنجاز العصر الذي سيتحقق بفدرالية هشة ، ورغم أن الإتجاه العام في الحوار ولدى سواد الشعب بحتمية الصيغة الفدرالية وكأنها قدرا لليمن ،إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال صحة ذلك الاتجاه فلن تكون طريق اليمن مفروشة بالورود بمجرد إقرارها ، و ليس بالضرورة خاتمة هموم ومشاكل اليمن فقد تتناحر الأقاليم مستقبلا في حال إقرار هذه الصيغة وذلك على التناقضات التي ستواجهها في التنفيذ ، وعند تعارض القوانين بين الأقاليم والحكومة المركزية ، ولن تحل مثل هكذا إشكالات إلا بمحكمة دستورية قد تنشئ بهدف النظر في مثل الخلافات المتوقعة بين الأقاليم والمركز على غرار ما يحدث في العراق بعد اعتماد دستور (بريمر) ، فهل غدا العراق في سعادة بعد (الديمقراطية) و(الفدرالية) ، نأمل ان لا يندم اليمنيون بعدم الاستفادة من دروس التاريخ وما يجري من حولنا ، وفي مقوله للإمام للإمام علي (رضي الله عنه): «ما أكثر العبر وما أقل الإعتبار » ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار’فالسعيد من اتعظ بغيرة واليمن السعيد أولى بهكذا عبرة لان موارده محدودة مقارنة بالعراق الذي يسبح فوق بحيرة من النفط ولكن إشكالاته في ساسة فشلوا في بسط الأمن وسعادة المواطن ، ومن هنا فليس مستبعداً في حال إقرار صيغة الفدرالية بأي شكل بتنازع مؤكد على حدود الأقاليم ومجرى السيول فمجتمعنا زراعي قبلي لا زالت المشاكل في الحدود الدولية مع جيران اليمن وهى شبه صحراوية يلازمها إشكالات من وقت لأخر فما بالك بتداخل ذات كثافة سكانية فذاك يحتاج أعباء أمنية وإدارية واقتصادية ومن هنا فليس من المبالغة في القول بأن الخلافات ستكون على ابسط التفاصيل كمجرى المياه والسدود الخ..
وهكذا فقد ترك المتحاورون هموم اليمن في قضايا غياب الدولة القوية التي تفرض الأمن والاستقرار والمواطنة المتساوية والتوزيع العادل للثروة والتنمية ، والقضاء على بؤر الفساد والاستبداد والظلم والاستيلاء على الأراضي وكأنهم يعاقبون الأرض بأفعال الساسة بدلا من أن يتجهون لإرساء دولة مدنية فاتجهوا لتقزيم الوطن والانتقام من الجغرافيا في غفلة من التاريخ وتقسيمه بسكاكين الساسة المتعطشين للسلطة التي ستفرز أكثر من رئيس إقليم وعشرات وربما المئات من الوزراء ، لقد استهان المتحاورون بتضحيات شهداء الثورة اليمنية بحوار فاشل لم يفضي لنتيجة وقد تكون خيبة أمل لهذا الشعب الذي عانى الأمرين خلال العقود الماضية ، يستخدمون (فوبيا) الحرب الأهلية ليأتوا بمثلها انفصال ناعم وتدهور تدريجي حتى يفيق الشعب ذات يوم على وطن من خمسة أقاليم مستقبله مرهون بذمة عدد من القيادات المتناحرة كممالك الطوائف الأندلسية التي تلاشت يوما بعد يوما ، سيتم مكافئة المتحاورين بمناصب ووزارة وسفارات بعد النجاح المذهل لحوارهم الطويل ، فلم يكن متوقعاً بأن مصير تضحيات اليمنيون لأجيال من اجل حفنة من المتفاوضين ليس أماهم سوى تمثيل أحزابهم الفاشلة ، وتمثيل أولئك الذين احترفوا السياسة فنهبوا الأرض واستولوا على وطن ومن عليه..
واللافت عند طرح أراء تصب في تصحيح مسار الوحدة ولكن في غير صيغة الفدرالية تتع إلى صيحات بأن أرقى الدول هى اتحادية فدرالية ، ولم يدرك هؤلاء بأن اغلب بلدان العالم ليست فدرالية أيضا ، الإشكال ليس في كون شكل الدولة فدرالي أو دولة بسيطة ، وكذا ليس العبرة في شكل النظام رئاسي أو برلماني أو جمهوري وملكي الخ ، والأمر نفسه أيضا في عدد الأقاليم المقترحة في توجه المتحاورون ، وإنما في غياب الدولة المدنية التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات فلا تهميش ولا إقصاء وتوزيع عادل للثروة والاهتمام بقوت المواطن وحفظ كرامته فماذا يريد المواطن غير هذا ، لعل إصرار بعض إطراف الحوار ولاسيما من مكون عنصر (الحراك الجنوبي) ينطلق من حقيقة أساسية هى ردود أفعال غير مسئولة ومحسوبة ضد من أجهض الوحدة بسلسلة من الإخفاقات والتجاوزات والفساد والاستيلاء على أراضي الجنوب ( بالمناسبة عند اتحاد الألمانيتين حُرِم على مواطني ما كان يعرف بألمانيا الغربية ان يتملكوا عقارات في شطرها الشرقي لعشرون عاما) وفي ذلك أبعاد ودلا لات كان الأحرى بساسة اليمن أن يدركون ذلك ، لعل سبب حنق بعض أطراف الحوار من المكون الجنوبي هو رؤيتهم من تسبب في كفرهم بالوحدة ليسوا طلقا فحسب بل ويساهمون في رسم ملامح المستقبل! ، وكأن شيئا لم يكن ولكن بالمقابل أن شركاء الوحدة الآخرين رغم جرم الإقصاء لشركاء الوحدة ولكن لا يعني ذلك تبرئتهم من المسئولية سابقا ولاحقا ، إلا أنهم يشاركون بعض إطراف الحراك وهم احد أسباب المشكلة ولن يكونوا طرفا في الحلول..
الأمر الآخر إذا كان لابد من الفدرالية (المقدسة) فهناك بدائل لتقليص نفوذ المركز والذي كان سببا في حمى هذه الرؤية (الريدكالية) والتي ترمي لذبح الوطن بسكاكين الساسة ، وقد طرح الكثيرون جملة من التصورات وأنا منهم ترمي إلى تحويل المحافظات الحالية إلى أجزاء مستقلة إداريا في اغلب تفاصيل سير الدولة باستثناء الأمور السيادية كما هو معمول به في الفدراليات ، وربما مع تعديل لشكل المحافظات الحالية على نحو يتفق عليه وتحويلها إلى أقاليم ولتسمى بأسماء أخرى فالعبرة بالنتيجة والهدف وهو تقليص سلطة المركز الذي ساعد على تمحور السلطة في يد حاكم مستبد أو مجموعة دون الاعتبار لأغلبية المواطنين..
وإجمالاً يمكن القول بأن نخب اليمن المعول عليها أهل (الحكمة أليمانية) قد أخفقوا في توصيف الداء فما بالك بالدواء ربما على مبدأ آخر الحلول هو الكي ، والذي يعني في (الجيوبلتكس) انزلاق الوحدة الوطنية لما هو أشبه بدول الطوائف!
الحقيقية الثانية من يدافعون عن وحدة مايو 1990م الارتجالية هو مجرد حق أريد به باطل فلو كانوا حريصين على تماسك اليمن لما عبثوا بدولة الوحدة الفتية في أيامها الأولى فقد تهافت القوم من اجل الظفر بالسلطة وإقصاء شركائهم ، واليوم يتباكون عليها!. وتستعيد ذاكرة الأمة هنا بمقولة أُم آخر ملوك غرناطة غداة سقوطها بيد أعدائها عندما قالت له: (أبك كالنساء ملكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال)!.
عجبي لأمة تشطر نفسها إلا أجزاء بحجة المظلومة والتنمية ، ولساسة يلهثون وراء السلطة والكرسي الذليل والهرولة نحو المجهول باحثين عن وهم التمجُدّ ليس المجد ،وهنا أستشهد بمقولة أديب وليس بسياسي عندما قال جبران خليل جبران:( لا خير لأمة تتجزأ لأشلاء وكل جزء يحسب نفسه امة!).