يخيل للمرء وكأنه يطالع آخر فصول الجمهورية اليمنية حين يسمع ويقرأ ما يكتب عن إشراك الانفصاليين والحوثيين في الحكومة المقبلة، فخطوة كهذه كفيلة بكسر الأعمدة المترنحة للجمهورية اليمنية.
يُبرر البعض ببلادة، والبعض الآخر بخباثة؛ إشراك هؤلاء في الحكومة القادمة، والقوات العسكرية والأمنية كونه يتم وفق مقتضيات المصالحة الوطنية، وعملاً بمبدأ إشراك جميع القوى السياسية في السلطة والثروة، وعلى الرغم مما يبدو على هذه التبريرات من وجاهة ظاهرية، إلا أنها تفتقر لمنطق وجود الدول واستمرارها، فهذا المنطق يقوم على أن من بداهة الأمور ألا يتولى شأن دولة ما من لديه مشروع مناقض لوجودها. فوجود أي دولة يستند على أفكار محددة تكون مصدراً لشرعيتها وبقائها، فعلى سبيل المثال؛ تأسست الجمهورية اليمنية في مايو 1990 على فكرة الوحدة الجغرافية للكيان الذي سُمي حينها بالجمهورية اليمنية، وعلى النظام الجمهوري كشكل لنظام الحكم، ونسف هاتين الفكرتين، أو أي واحدة منهما، يعني عملياً إلغاء الجمهورية اليمنية. وسيتم هذا النسف حين يصبح من أجندته تتناقض مع هذه الأفكار في موقع اتخاذ القرار في الدولة، حيث أنه سيسخر وجوده في هذا الموقع لتنفيذ أجندته.
فالوزير أو القائد العسكري أو السفير الانفصالي، سيستخدم منصبه لتفكيك الدولة، وإحياء مشروعه الانفصالي. وبالكيفية نفسها سيسعى من لا يقر بالنظام الجمهوري من هؤلاء، إلى تقويض هذا النظام وتقوية مشروعه السلالي الملكي، والنتيجة الطبيعية لذلك هي نخر كيان الدولة من داخلها وبمواردها.
إن مكافأة الانفصاليين والمتمردين بالمناصب والوظائف ستجر البلاد إلى مزيد من الحركات الانفصالية والمتمردة في مناطق أخرى، فهذه الخطوة توجه رسالة لكل من يطمح في الحصول على الثروة والسلطة بأن عليه أن يطرقها من باب الدعوة للانفصال والتمرد على الدولة، وستصبح عندها الحركات الانفصالية والمتمردة بديلاً عن الأحزاب السياسية، وبذلك تكون هذه الخطوات بمثابة صيغة مثلى للفوضى وتفكيك الدولة، ولهذا فإن كل من سيقبل بها من أي موقع كان ليس إلا أحمق لا يدرك ما يعمل أو خائن لوطنه.
إن رفضنا تولي انفصالي أو حوثي منصباً عاماً يتسق ومنطق الدولة، وهو المنطق المعمول به في جميع الدول المتطورة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية لم يسمح للجنوبيين من تولي المناصب الفيدرالية في الدولة لأكثر من عشرين عاماً عقب سحق الانفصال وانتهاء الحرب الأهلية عام 1865 (رالف م. غولدمان. من الحرب إلى سياسة الأحزاب. ترجمة فخري صالح. الدار الأهلية للنشر. عمان ص 141). وفي كثير من الدول الأوربية يحظر القانون إنشاء الأحزاب النازية والفاشية، كما أن هذه الدول، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن؛ لم تُشرك الأحزاب المتطرفة - من اليمين واليسار - في السلطة، بسبب أن إيديولوجية هذه الأحزاب تتناقض والأسس الديمقراطية التي تقوم عليها هذه الدول. ففي فرنسا وقفت جميع الأحزاب اليسارية واليمنية خلف المرشح الرئاسي جاك شيراك، حين تواجه مع زعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية عام 2002، والتي فاز فيها شيراك بأغلبية قياسية، والتي عبرت عن رفض المجتمع السياسي تولي منصب الرئاسة شخصاً ينتمي لليمين المتطرف. وهو الرفض الذي ينسجم ومنطق الأمور؛ حيث لا يمكن أن يتسلم السلطة بالوسائل الديمقراطية من لدية برنامج يقوم على هدمها وإلغائها.
سيرد البعض على ما أطرحه هنا بالقول "إن مخرجات الحوار الوطني لا بد أن تُفضي إلى إشراك الانفصاليين والحوثيون في السلطة والثروة، وإلا فإنها تبقى عملية ناقصة وعديمة الجدوى". والحقيقة أن هذا الاستنتاج ليس إلا محصلة للأخطاء الأساسية التي ارتكبها من هندس لمؤتمر الحوار، فهذا المهندس كان عليه أن يحدد سقوف للحوار لا تتعدى أسس وجود الدولة، كالوحدة والجمهورية، كشرط مسبق لقبول أي مشارك في الحوار. فهذه الأسس هي جوهر الحوار الذي نسميه "وطني"، حيث لا معنى لحوار وطني يفضي إلى إلغاء هذا الوطن. والأمر الطبيعي والمنطقي لإشراك الانفصاليين، ومن ينافس الدولة في شرعيتها -كالحوثيين- في السلطة بعد مؤتمر الحوار، ينبغي أن يتم بعد أن يتخلى هؤلاء عن أجنداتهم المناقضة لأسس الدولة، بمعنى أن يتخلى الانفصالي عن مطالبته بالاستقلال وحق تقرير المصير، والحوثي عن الدويلة التي أسسها في صعدة، وبعد ذلك يتم السماح لهؤلاء بالدخول للسلطة التشريعية، التي تحتمل أطراف مشكوك في ولائها للدولة، وليس بتسليمهم أجهزة الدولة ليقوموا بتمزيقها.
يبرر من يؤيد إشراك الانفصاليين والمتمردين في الحكومة القادمة، بأن ذلك الأمر يساهم في احتواء الانفصال في الجنوب والتمرد في صعدة، غير أن هذا المبرر يتناقض والنتيجة الطبيعية لهذا الإشراك، فالانفصالي الذي حصل على نصيب في السلطة والثروة نتيجة المشروع الانفصالي الذي يحمله ويفاخر فيه، لن يكون من مصلحته إضعاف هذا المشروع، لأنه بذلك سيلغي مصدر وجوده في السلطة. فهو يدرك أن اضمحلال المشروع الانفصالي أو اختفائه سينعكس بالضد عليه، حيث لن يعد هناك من مبرر لإشراكه في السلطة، ولهذا فإن من مصلحته إبقاء المشروع الانفصالي ورفع وتيرته بدلاً من خفضها. وبالمثل؛ فإن من مصلحة الحوثيين الاحتفاظ بدويلتهم وتعزيزها كي يستمروا في السلطة. والنتيجة الطبيعية لكل ذلك تعني أن إشراك هؤلاء في السلطة سيؤدي إلى عكس الهدف الذي أعطي له.
نخلص مما سبق إلى القول بأن ازدهار هذه الأفكار الخطيرة؛ يشير إلى حالة الانهيار للطبقة السياسية الوطنية وتراجع دورها، وصعود أصحاب المشاريع الصغيرة، والحالمين والتافهين، وازدهار مقولاتهم، وهو أمر يجعلنا لا نندهش في حال صحونا على تشكيل حكومي قادم يضم في طياته وزارة لشؤون الانفصال ووزارة لشؤون البطنين، ووزير داخلية انفصالي، ووزير دفاع حوثي، وأحد أعضاء القاعدة رئيساً للأمن القومي.