مثلت حادثة اغتيال الشهيد سعد بن حبريش العليي الحمومي نقطة تحول في تطور الأحداث في حضرموت، وربما لاحقاً في المحافظات الجنوبية. كان للرجل مكانه خاصة لدى سكان حضرموت، وفي الهضبة الجنوبية تحديداً. فقد كان الشهيد يتمتع دائماً بحضور طيب في الأوساط الحضرمية، بدواً وحضراً، ساحلاً ووادياً، لهذا فمصابنا فيه وفي مرافقيه جللاً، وخسارتنا فيه عظيمة.
تبدو حضرموت هذه الأيام كمرجل يغلي، كل الأطراف تبدو مندفعة نحو استغلال الحدث كل بطريقته، والقليل من العقلاء فقط هم الذين يمثلون الطرف الصامت، ربما هؤلاء يتخيلون العواقب المحتملة للذهاب نحو حالات لا أحد يستطيع التنبؤ بها. من المسلم به في مثل هذه الحالة أن تبادر السلطات إلى اتخاذ موقف حازم من المشتبه بهم في ارتكاب الجريمة، تتحفظ عليهم، وتقدمهم للعدالة، وتعلن للناس نتائج التحقيق، فتتجلى الحقيقة كما هي، ويزول الغموض، فتهدأ النفوس، ولا يجد الخائضون في المياه العكرة فرصة للاستغلال.
في الواقع ادانت الحكومة بحزم الحادث في اجتماعها السابق، وبادر الأخ الرئيس بإرسال برقية عزاء لأسرة وقبيلة الفقيد، وأرسلت لجنة أمنية عليا لمتابعة التطورات، وترضية الحموم، التي تمثل نسبة كبيرة من سكان الهضبة الجنوبية لحضرموت، وحضر المحافظ مراسم الدفن واتخذت إجراءات غير قليلة للسيطرة على الموقف، وحتى الآن لا يبدوا أن هذا التحرك قد أرضى الحموم، كما أنه لم يرض قبائل حضرموت المتحالفة مع الحموم، فشيخ الحموم، هو رئيس مجلس تحالف القبائل هناك. وتأكيداً لاهتمامه بالموقف، تابع الأخ الرئيس الوضع في المحافظة، معزياً أسرة الفقيد ومتحدثاً مع شيوخها، واعداً باتخاذ ما يلزم من إجراءات. ومتعهداً بتنفيذ كل ما كان الشيخ يتابعه من مطالب لأبناء المنطقة، ومع ذلك ظلت الدعوة لما سمي " بالهبة " قائمة، وتجري التحضيرات لمواقف لا أحد يتكهن بمآلاتها فنحن نستطيع في الظروف الملتبسة أن نصنع الحدث ولكننا لا نستطيع أن نتحكم في نتائجه، وخاصة في ظروف معقدة كالتي تمر بها حضرموت خاصة واليمن عامة.
اليوم تتقاطر على حضرموت قوافل عديدة تحمل الرجال، والعتاد، وترفع شعار التضامن مع الحموم، وتبدو الحالة في المنطقة خارج السيطرة إلا من نقاط أمنية، ومعسكرات تعرضت كثيراً للاعتداء. وسالت حولها دماء كثيرة، وتراجعت هيبة الدولة هناك إلى مستويات لم تعرفها المحافظة من قبل، ترافقت مع مشاعر متأججة، رافضة، ومتمردة، لم تستوعب الاجراءات الحكومية بعد غضبها. وخفتت أصوات العقلاء إلا من رحم ربك.
يرفع الجميع شعارات ومطالب مختلفة. الحق كل الحق فإن بعضها مما يمكن تحقيقه، فيما البعض الآخر يبدو مبالغاً فيه حد الغلو. فقد ركبت القوى المعادية لوحدة الوطن هذه الهبة وهي تحاول قيادتها إلى الوجهة التي تريدها.
الآن يبدوا المشهد مقلقاً فأصحاب المشاريع الصغيرة، وجدوا في الحادث ضالتهم، وجدو سبباً وجيهاً للتحرك نحو أهدافهم. لهذا يقومون بالتحشيد نحو حضرموت، والقول بأنهم يتضامنون مع الحموم غير مقنعاً، فقد توالت على المحافظة أحداث كثيرة وسالت دماء غزيرة بفعل الارهاب وعناصره ولم يتحرك أحد للتضامن هناك مع الشهداء من أبناء المحافظة الذين قضوا نحبهم في أحداث مؤلمة، حتى مجرد بيان تضامن لم يصدر، فما هو القصد من هذا التسعير اليوم وكأن حضرموت داخلة في حرب مع الدولة.
لا يخفي البعض رغبتهم في اسقاط المحافظة، أي لا يخفي هؤلاء رغبتهم في مهاجمة المؤسسات الحكومية، المدنية والعسكرية، والشركات النفطية العاملة. وتجري حالات إساءة لأبناء المحافظات الشمالية كالإعتداء على ممتلكاتهم، وهي أمور ليست من طباع الحضرمي، ولا علاقة لها بثقافته التي نغرسها. إن المساس بأي مواطن بصرف النظر عن المحافظة التي ينتمي إليها هي جريمة لا يجوز أن يفلت مرتكبيها من العقاب، كما يجب أن ترتفع الأصوات الخيرة بإدانتها. أحزاب، ومنظمات، وشخصيات، ورجال علم، ونقابة، إن بعض المظاهر التي تبدو تجاه العاملين في المحافظات لا تمت بصلة لحضرموت، ليس حضرمي هذا الذي يمارس مثل هذه البشاعات، مهما كانت دوافعه وأسبابه للقيام بمثل هذا العمل الذي يتعارض مع عقيدتنا وسماحتنا التي عرفناها وعرفها عنا غيرنا. باختصار العنصرية شعور ممقوت، أما ممارستها فجريمة، أياً كان الشعار الذي يختفي خلفها. هنا تتجاوز الأمور حدود الاحتجاج والتضامن مع أسرة المرحوم الشهيد بن حبريش وحادث استشهاده.
الأمر هنا يتعلق بمستقبل حضرموت، ومكانتها، وأمنها واستقرارها والأمر أيضاً يتعلق بأمن الوطن، هنا تتعرض مصالح عليا للخطر، وتبدوا الدولة مهددة في كيانها. إن أمن البلاد والعباد ليس من القضايا الثانوية التي يمكن لأي منا الصمت حيالها أو الوقوف موقف المتفرج إزائها.. إن أمن البلاد يعد مصلحة خاصة لكل فرد في المجتمع ومصلحة عليا للوطن كله ومن يحاول المساس بهذه المصلحة إنما يمس مصالحنا الخاصة والعامة ويهدد مستقبلنا، ومستقبل الأجيال اللاحقة من بعدنا.
هذا هو الذي يجعلني أختار عنوان هذا المقال ( النداء)، فحكماء حضرموت وعقالها يدركون خطورة ما قد تذهب إليه الأحداث إذا ما تحكم في سيرها فاقدي البصير والبصيرة والنفوس المريضة، والذين أعمتهم نوازعهم الشخصية عن رؤية الأمور بآفاق مستقبلية. حكماء حضرموت وعقالها أمامهم واجب وطني وعليهم يعول في قول كلمة الفصل، كلمة حق فيما يجري من تسعير للنداءات المناطقية، وتهييج للمشاعر الانفصالية والنعرات المناطقية والعنصرية، استغلالاً لا يخلو من حقد وضغينة. وهي أيضاً صفات ليست حميده. إن لنا في تجارب أهلنا في بعض بلادنا لعبرة، ولنا في تجارب الشعوب الأخرى لخبرة، فالفوضى لا يلحقها غير العنف والاقتتال والدمار، ومدينتي زنجبار وجعار، ولودر، خير شاهد على ما نقول، إن دماء كثيرة قد سالت حتى استعادة الدولة السيطرة على هذه المدن، بعد أن سقطت بيد القاعدة، والأغلب أن دعاة الفتنة يريدون أن تؤول الأمور في المحافظة إلى هذا المصير المرعب.
إن جنوح المطالب نحو العصيان، وإقلاق الأمن والسكينة العامة، أو الإضرار بالمصالح الاقتصادية والوطنية ووشائج القربى بين الأهل عملاً لا يستقيم مع ما عرف عنا في حضرموت، من حب للخير، والتمسك بمكارم الأخلاق، واحترام القانون، وطلب العدالة من أبوابها. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مطلب خروج الجيش من حضرموت، إنما يعني تسليم حضرموت للفوضى والنهب والدمار. وإن كان إعادة تموضع بعض الوحدات الموجودة في قلب المدن إلى خارجها يبدو منطقياً، واستجابت الدولة له أمراً مرغوباً فيه.
نحن جميعاً. وعلى اختلاف مشاربنا وانتماءاتنا السياسية نمر بمرحلة صعبة، استثنائية. فالطريق الأمثل لحل المشكلات وعلاج أمراضنا التي أزمنت، وتكاد تهدد كياننا الإنساني والحضاري هو أن نعطي للحوار فرصة للنجاح، فرصة للتوافق حول مستقبلنا وفرصة للخروج من أزمتنا الراهنة، ومن حسن الحظ أننا نكاد نقترب من وفاق وطني حول معظم قضايانا. إن الحوار الوطني بما قد يسفر عنه من أسس جديدة لبناء الدولة هو الفرصة الأخيرة لإعادة الاعتبار لدولة الوحدة، وإعادة الاعتبار للتضحيات الجسيمة لشعبنا في تاريخه المعاصر، وبالتأكيد فإن هذه التضحيات صنعت ثورتي سبتمبر، وأكتوبر، والوحدة ليست قابلة للعرض والطلب. نرتضيها بالأمس، ونرفضها اليوم. إن مشكلاتنا في حضرموت هي جزء من المشكلات العامة في اليمن وبالتأكيد فإننا نعول كثيراً على جهود القيادة، ومخرجات الحوار للوصول إلى دولة نرتضيها جميعاً. في تقديري أنها دولة اتحادية من عدة أقاليم، الإقليم الشمالي، هو واحد من مخرجاتها المتوقعة، وفي هذه الحالة فإن احتقانات ما قبل الوحدة، وما بعد الوحدة وشعور الحضارم بالغبن سوف يتلاشى مع استلام سكان الإقليم كافة مقاليد القرار ووضع السلطة المحلية في متناول أهله. مما يعني ممارسة سلطة حقيقية على الواقع ونصيب غير منقوص من الثروة، وعدالة تشمل سكان اليمن عموماً.
حضرموت أمانة في أعناقنا، تماماً كما هي اليمن وديعة استخلفها الله فينا، وأسباب الفتن في هذا الزمن حاضرة، والعقلاء والمخلصون فقط هم من يستطيعون قول الحقيقة، ومنع هذه الأسباب من خلق النتائج، وتقديم المصالح العليا للوطن على كل مصلحة. إن أمن حضرموت، واستقرارها والحفاظ على سكينتها العامة هي مصلحة كبرى لحضرموت، وهي مصلحة عظمى لليمن والمحيط الإقليمي، ولا يجوز ولا يجب أن نسمح لأحد أياً كان استغلال هذا الحدث الجلل، لشيخ عظيم كالشيخ الحمومي لتحقيق مكاسب خاصة، ومصالح ضيقة، فيزرع فينا الفتنة ويورث لنا الدمار، ولنا في حكمة أهلنا، وصبرهم على الشدائد، وتاريخهم في مراحل حياتنا الإنسانية الطويلة عبرة وموعظة حسنة.
إننا معنيون بما يجري في حضرموت، كما إننا معنيون بما يجري في كل شبر من اليمن، وقد حان الوقت أن نعالج أمورنا بعيداً عن تأثير المصالح الضيقة، والرؤى التي ألحقت بنا أضراراً سنحتاج إلى وقت غير قليل لتجاوزها، إن حضور الحكمة، والعقل والثبات، على الحق في الملمات، هو ما نحتاجه اليوم في حضرموت. فهل حان الوقت للاتعاظ وأخذ العبرة؟