لكن. قد يسأل البعض عن شكل هذه الدولة المائعة (شبه الدولة، وشبه الديمقراطية)، الملامح كثيرة لهذه الدولة، إلا أنه يمكن القول أن الدولة اللبنانية الراهنة هي مثال جيد على هذه الحالة.
هناك دولة في لبنان، إلا أنها ليست نافذة على الجميع على اعتبار أنها دولة وعلى اعتبار أنهم مواطنين، بل هي دولة فقط لمجرد أن مجموعة من القوى السياسية المستندة إلى طوائف مذهبية توافقت على وجودها في حدود معينة، كمحل لتفاهماتها وبقدرات أقل من قدراتها أيضا. فالجيش اللبناني هو أقل قوة وقدرة من قدرة وقوة حزب الله العسكرية مثلا..
هناك مواطنون في لبنان، إلا أنهم ينتمون لطوائفهم أكثر من انتمائهم لفكرة المواطنة، كما أن هناك أحزابا أيضا في لبنان إلا أنها واجهات طائفية أكثر منها أحزابا مدنية تنشط بين مواطنين بعيدا عن اعتبارات الدين أو العرق.
في هذا الواقع تمارس السياسية في لبنان، ويسمى توافق الطوائف عبر القوى التي تمثلها ديمقراطية أيضا. منصب الرئيس هو للمسيحيين الموارنة ليس كل المسيحيين حتى، رئاسة الحكومة هي للمسلمين السنة، رئاسة البرلمان هي للمسلمين الشيعة..
في هذه الحالة لا تؤدي نتائج الانتخابات التي يتم إجرائها مهما كانت مختلفة إلى واقع سياسي مختلف. فرئيس الجمهورية يجب أن يكون مسيحي ماروني، وجرت العادة أن يأتوا به من قيادة الجيش بتوافق ورضا كل القوى السياسية وهو المنصب الأضعف والذي يفترض أن يكون أداءه توافقيا دائما.
رئيس الحكومة يجب أن يكون من السنة لكن التحالف الفائز بأكثر المقاعد في فارق لا يكون كبيرا في العادة هو من يمكنه تسمية رئيس وزراء لرئاسة حكومة تشارك فيها المعارضة بنسبة الثلث المعطل، وهذا الأخير بدعة لا مثيل له في غير لبنان. ووزراء ينتمي كل منهم لتياره أكثر من انتماءه لحكومة كوحدة متجانسة وينسحب انتماءه على أداء وزارته أيضا.. فيما رئاسة البرلمان هي للشيعة ومنذ كان هذا التقسيم يحتل رئيس حركة أمل نبيه بري المنصب مهما كانت النتائج. لأن حزب الله لا ينازعه عليه فقط.
ليس الانتخابات ونتيجتها هي العامل المؤثر على هذا الواقع السياسي في لبنان الذي يتقاسمه فريقان هما 8 آذار بقيادة حزب الله وحلفائه وهم خليط من الشيعة والسنة والمسيحيين، و14 آذار بقيادة تيار المستقبل وحلفائه من خليط مماثل، مع تحولات طريفة للدروز بقيادة وليد جنبلاط بين المعسكرين.. فالواقع الإقليمي والدولي وتجاذبه بين معسكر إيران سوريا حزب الله، والسعودية أمريكا هو مؤثر أيضا.
بدايات التسعينات من القرن الماضي حين تم التأسيس لهذا النظام التوافقي بين الطوائف للخروج بلبنان من الحرب الأهلية في اتفاق الطائف الشهير، قيل أنه سيكون انتقاليا في الطريق إلى دولة المواطنة والديمقراطية و نص على ذلك في الاتفاق أيضا.
إلا أن طبيعة النظام وتأسيسه على هذا النوع من تفاهمات الطوائف، بعد الحرب الأهلية في التأسيس الثاني وخضوع لبنان بصورة أو بأخرى لتفاهمات أو خصومات سوريا السعودية هي من جعلته دائما ومستمرا منذ أكثر من عقدين على تأسيسه حتى الآن..
ربما يقول البعض. لكننا لسنا طوائف وأديان في اليمن كلبنان، في الحقيقة لسنا كذلك تماما، إلا أن دولة ما أو نظام سياسي يتم التأسيس له تحت فكرة التفاهمات والتوافقات بين مراكز قوى، في ظل هشاشة الدولة وضعفها يستمر ويتكرس بتلك الصيغة، لتمسك الأطراف الفاعلة على تبايناتها الكبيرة بهذا النظام للحفاظ على مصالحها المكتسبة أو خشية الجديد القادم. ويحل هو محل فكرة ووظيفة الدولة التي تظل ضعيفة..
فالحديث الآن عن الحاجة لنظام سياسي توافقي وإطالة أمده وتوسيعه ليشمل أطرافا على اعتبارات جغرافية ومذهبية تحت دعاوي الشراكة الوطنية، هو في الحقيقة ليس من الشراكات الوطنية في شيئ فهي لا تكون إلا بين مواطنين متساويين على اعتبارات المواطنة لا غير.. أما هذا النوع فهو شراكات أو تفاهمات بين تيارات سياسية ومراكز قوى لا أقل ولا أكثر.
ليس لدينا في اليمن دولة قوية أو هي أقوى من الأطراف السياسية ومراكز القوى، كما أننا لا نحضر كمواطنين أفراد وأحرار حين نمارس الديمقراطية بل نحضر كحشود عصبوية لاعتبارات اجتماعية ومذهبية وحتى جغرافية تعبر عنها مراكز قوى قديمة وناشئة.
تسليم الدولة والديمقراطية لنظام سياسي يعبر عن تفاهمات تلك القوى، هو تكريس لتلك القوى التي ستجد مصالحها في هذا النظام والذي ستحرص على ديمومته واستمراره.. في مقابل المزيد من ضعف الدولة وتخلف التجربة الديمقراطية.
لا أقول أننا في اليمن الآن في وضع سياسي يسمح لإدارة الدولة الراهنة أو التأسيس للدولة المستقبلية بعيد عن التوافق السياسي، في ظل ضعف الدولة وهشاشتها وقوة الأطراف السياسية ومراكز القوى التي يمتلك بعضها سلاحا، إضافة إلى حدة المطالب السياسية الجهوية وارتفاع سقف مطالبها يكون إدارة المرحلة بالتوافق هو واقع وحاجة بعيدا عن معايير الخطأ والصواب.
فالمرحلة السياسية الراهنة هي محكومة بالتوافق، والحوار هو بالتوافق أيضا، فالحديث هنا عما ستؤسس له هذه المرحلة التوافقية فهو ما سيحدد ملامح المستقبل بين التأسيس للدولة والديمقراطية، أو تكريس التوافق بين مراكز القوى كبديل عنهما..
فالحديث عن استقلال وحيادية مؤسسات الدولة السيادية كالجيش والقضاء والوظيفة العامة والإعلام على أهميتهما ليس كافيا أو ليس ممكنا تماما في ظل هيمنة مراكز القوى وتوافقها على إدارة الدولة وإدارة تلك الأجهزة، إذ ثمة فارق بين تحييد الدولة ووظيفتها في ظل هيمنة القوى، وبين هيمنة الدولة على الجميع وقدرتها على الجبر والقسر.
في الحالة الأولى نحصل على حالة مشابهة للدولة اللبنانية وجيشها الحيادي جيدا بين الأطراف وضعفه أمام قوة وقدرة تلك القوى داخل الدولة، وهذا الوضع لا يشبه بأي حال فكرة ووظيفة الدولة الطبيعية.
الهروب باتجاه الأطراف والحديث عن الفيدراليات والأقاليم، هو ليس كافيا قبل حسم فكرة ووظيفة الدولة في المركز، فلن يكون الحال في الأقاليم بعيدا عما هو الحال في المركز أيضا..
كل الأنظمة السياسية، من برلمانية، ورئاسية، أو مختلط، أو أشكال للدولة من مركزية أو فيدرالية، هي جيدة وفق الفكرة أو الحاجة المرجوة من ذلك النظام وذلك الشكل للدولة. فلا نظام أو شكل دولة هو جيد في حد ذاته..
فللنظر لحاجتنا هنا في اليمن، فنحن نحتاج لدولة طبيعية قوية وقادرة ومهيمنة على الجميع، وليس مهيمنا عليها من قبل مراكز القوى أي كانت قبلية أو مذهبية أو جهوية. نحتاج لدولة مواطنة وديمقراطية..
أي نظام سياسي وأي شكل دولة هما من يمنحانا ذلك أو يؤسسان لذلك بالأصح، وأيهما أيضا من يكرس ضعف الدولة لصالح هيمنة مراكز القوى ويقيم تفاهماتها محل الديمقراطية الشعبية.
في تقديري يمكن لنظام رئاسي ديمقراطي، وشكل دولة بصلاحيات أكبر للأطراف، أن يمنحانا ذلك. مع أن هذا النظام لن يكون بعيدا عن هيمنة القوى وتفاهماتهما في أول الأمر. فهذه الهيمنة هي الواقع الآن وما سنورثه لبعض الوقت، فمثلها ليس مما يختفي فجأة، أو دون تخطيط وتصميم لنظام سياسي يحقق ذلك.
لكن. لماذا النظام الرئاسي وليس البرلماني؟ّ!.. أظن أن معرفة طبيعة الأداء السياسي لمرحلة ما بعد هذه المرحلة الانتقالية، أن تجيب عن هذا السؤال. فطبيعة الأداء هناك لن يكون مختلفا عما هو الآن، من حيث هيمنة مراكز القوى وإدارة المرحلة من خلال تفاهماتها..
فكما لم يتمكن طرف سياسي وحده أن يحسم الأمور لصالحه الآن، لن يكون بمقدور أي طرف أن يفعل ذلك لوقت قريب، تحتاج كل الأطراف لبعضها لإدارة المرحلة بعد الانتقالية، وأي هيمنة لطرف ما و إن من خلال انتخابات لن يرضي بقية الأطراف، وسيفجر الأوضاع عسكريا، وليس هناك دولة قوية تجبر الأطراف الخاسرة على قبول النتيجة كما يحدث في التقاليد الديمقراطية المعتبرة.
إن كان الأمر كذلك، يقول أحدهم، ما الفارق إذا بين نظام رئاسي أو نظام برلماني، ما دام النظامين يحتاجان للتوافق بين مراكز القوى لإدارة المرحلة القادمة؟!.
من وجهة نظري هناك فوارق وجيهة فعلا.. في نظام برلماني بحكومات توافقية تشترك فيها كل الأطراف، لن يكون بمقدور كل الأطراف بناء دولة قوية بأجهزة قوية قادرة على الجبر والقسر على الجميع، سيتواطأ الجميع على أن تكون محايدة فيما بينهم بالأكثر، ولكن ليس فوقهم كما يفترض في دولة طبيعية..
في النظام البرلماني أيضا، يكرس الوضع القائم، ولا يحدث تحولات كبيرة، ودائما ما تكون الحكومات ضعيفة وخاضعة لابتزاز الأطراف المشاركة، والأخطر أن يكون ذلك على حساب بناء الدولة ووظيفتها كفكرة مهيمنة على الجميع.
الأخطر أيضا أن يحدث ذلك تحت حجج التوافق الوطني، الذي سيتحول إلى حالة دائمة، وسلاح في أيدي مراكز القوى لتكريس هيمنتها ونفوذها على الضد من هيمنة ونفوذ الدولة.
في النظام الرئاسي بدورات محددة، سيحتاج أي رئيس قادم لتوافق القوى القادرة والفاعلة على ترشيحه لدورتين رئاسيتين على الأقل، في الحالة السياسية بعد الانتقالية، إذ لن ترضى بقية الأطراف أن يكون الرئيس من طرف معين.. الفارق في هذه الحالة عن النظام البرلماني هو أفضلية أن تترك مسألة بناء الدولة وإدارتها لرئيس تراه الأطراف محايدا، بدلا من أن تقوم هي جميعا بذلك.
بعد دورتين رئاسيتين، يمكن لرئيس آخر أن يحدث تحولات مهمة وكبيرة في بنية الدولة في فترته الثانية بعيدا عن رغبته في فترة أخرى تحت هيمنة وترضية مراكز القوى..
النظام الرئاسي وإن كان توافقيا في أول الأمر، يجعل من رئيس ما مسؤول أمام الشعب في بناء الدولة وإدارتها، بعكس حكومة توافقية يشارك فيها الجميع ولا أحد مسؤول عما تفعله.. إرادة الفرد أيضا في النظام الرئاسي هي أسرع استجابة للأحداث منها في الحكومات التوافقية..
تعلق بالنظام الرئاسي شبهة الاستبداد، إلا أن ضبطه بفترتين محددتين تنفي عنه هذه الشبهة، إلا أن المؤكد عن الأنظمة البرلمانية في الدول الهشة كاليمن، أنها تكرس الفوضى والضعف في الدولة، هي كذلك أيضا في بعض الدول المتقدمة إلا أن قوة تلك الدول واستقرارها يقلل من تلك المخاطر لكثرة سقوط الحكومات البرلمانية..
قد أكون منحازا للنظام الرئاسي، لكني لا أعارض أي نظام هو أفضل لبناء الدولة اليمنية القوية التي نحتاج.. يمكنكم إثراء هذا النقاش..
الحلقة السابقة
المستقبل الذي في الانتظار..!