(نشر هذا المقال في موقع نشوان نيوز بتاريخ 26 إبريل 2009).
من اللازم نقد الأداءات.. هذا إذا كنا نريد عدم تكرار الأخطاء والخطايا.. ذلك أن ما نعيشه اليوم في اليمن هو حاصل جمع أداءات مجموعة من الأشخاص الذين تربعوا على سدة القرار في اليمن المشطر والموحد وأوردوه موارد الوكالة والضعف وانعدام الرؤية وغياب الاتجاه..
أقول: حتى في أيام الأئمة المتوكليين كان الواقع الفكري والثقافي والأدبي أفضل بكثير من واقع اليوم المتخم بالعاهات والنكبات التي لا تؤهل لانتقالة حميدة أو لفواق وشيك.. لهذا تبدو السياسة هي الأخرى بحاجة إلى علم "جرح وتعديل" للرجال، تماماً كما هو حاصل في علم الحديث..
مع أخذ الاعتبار بالفارق بين الجرح والتجريح.. وبين التقييم والاستهداف.. وبين التقويم والتشهير.. خصوصاً وأن مثل هذا النقد الذي نبدأه في هذه التناولة مع الدكتور عبدالكريم الإرياني لم يعد بمثابة "التقويم" بل هو حاصل من قبيل "التقييم" وحسب. بغرض توفير مادة نقدية للأجيال الصاعدة.. أو بالأصح للأجيال المتسلقة، ذلك ان الذين صعدوا من قبل قاموا بالتخلص من السلّم وصار من العسير جداً الصعود إلا بعناء شديد وبعد طول محاولة..
وبالطبع نبدأ بالإرياني ولم نبدأ بالرئيس علي عبدالله صالح.. ذلك أن الرئيس ينتقد يومياً على صفحات الصحف والمجلات والمواقع علاوة على الكتب، حتى لكأنه الآن فقد القدرة على التحسس من النقد.. كما فقد موهبة الاستفادة من النقد الصادق والجاد.. مدركين أن الديمقراطية والروح الرياضية تنمو بالتدريج في صدور ساستنا مهما أظهروا من حماسة لتقبل النقد..
وعموماً أتقن الدكتور عبدالكريم الإرياني الخروج من مغبة اللوم في كثير ملفات كان له الدور الأساس –وربما الوحيد- في إرباكها وإفسادها بما لا يؤثر على الثناء الواجب له في مسألة حظر استيراد الفواكه مطلع الثمانينات، الذي كان له دوره في تحريك عجلة زراعة محاصيل الفاكهة التي يصدر اليمن الكثير منها اليوم إلى خارج الحدود..
والدكتور الإرياني حازم.. ومواظب، وما إلى ذلك من سمات شخصية صبت غالباً في خدمته هو.. وكانت في الكثير من محطاتها وبالاً على الوطن المشطر.. ثم الموحد..
ينحدر الدكتور من أسرة علم وحكم.. من طبقة القضاة التي كانت في المرتبة الثانية مباشرة بعد طبقة الهاشميين في التصنيف الإمامي الذي ساد اليمن قروناً من الزمان.. ولا تزال آثاره السيئة تنسحب على المجتمع اليمني حتى اليوم.
عمه "حكيم اليمن" ورئيس مجلسها الجمهوري في أصعب الظروف.. الرجل الذي حوصرت في عهده صنعاء من قبل مخلفات الكهنوت ، والرئيس الوحيد الذي غادر السلطة طوعاً ورصيده يوم ذهابه مثل رصيده يوم صعد..
إنه القاضي عبدالرحمن الإرياني رحمة الله عليه.. العالم والشاعر والأديب والسياسي الورع.. وفيه قال الشاعر قاسم الشهلي معارضاً بيتي عنترة:
ولقد ذكرتكِ والمُلغِّم واقفٌ ... قد أحكم الألغام في الإركانِ
فوددت تقبيل الشباك لأنها... كرويةٌ.. كعمامة الإرياني
أواخر عهد القاضي كانت الأوضاع مشابهة لأيامنا هذه.. سقف مرتفع من الحرية وسقف لا حدود له من الفوضى وتعدد مراكز الضغط، الأمر الذي أهل أبناء الشطر اليمني الشمالي للانضباط التلقائي في عهد خلفه ابراهيم محمد الحمدي.
وعموماً كان القاضي شاعراً يعكس شعره الجزل عمق ثقافته الوطنية وشديد اعتزازه بيمنه.. وهو القائل مخاطباً أبو محمد الحسن الهمداني:
يا ابن همدان أنت بلغت لكن .. خادعونا وأظهروا الاستكانة
خادعونا بالله بالرسل بالقرآن .. بالزهد بالتقى بالديانة
بعد ألف من السنين رأينا .. قولك الحق واضحاً في الإبانة
قم تجد أمة فروها بأظ .. فار حداد وجرعوها الإهانة
قم تجد شعبك الكريم لديغاً.. وعلى عنقه ترى ثعبانه
ليس في الدين سيد ومسود .. فاقرؤوه وحققوا قرآنه
إن دين الإسلام دين التساوي.. ليس فيه تعاظم واستكانة
لا تقولوا سيدي لشخص ومن .. ينطق بها فاقطعوا بحد لسانه
......
وهنالك رسالة قرأتها في مذكرات أحمد حسين المروني موجهة منه للدكتور المقالح ورسالة موجهة للأخير من القاضي تنمان عن ذوق رفيع وعذاب مرير..
أسهم آل الإرياني في بناء دولة الجمهورية في شمال الوطن.. وراح الدكتور مطهر الإرياني يلون أرجاء الحياة الجديدة بألوان قوس قزح.. يبث الحياة في عروقها ويربطها بالأرض والصبح والحب والبن والأمل النبيل..
عبدالكريم جاء مغايراً عن هذا الركب الكريم عدا في الهمة والنشاط وسرعة البديهة..
ومن أول ظهور له بدا حاد الذكاء بجسده المختزل وصلعته الناعمة التي يقال بأن الرئيس أصابها بخدش بسيط جراء ممازحته للدكتور بعود يابس من القات في مقيله العامر..
تولى وزارة الزراعة فالتخطيط ثم رئاسة الوزراء ثم الخارجية.. وفي كل محطاته كان رجل أمريكا الأول في اليمن ولم يكن ينقصه سوى قبعة الكاوبوي وجواز السفر المطرز بالنسر العنيف.
عرف الدكتور عند الإسلاميين في اليمن بأنه الأب الروحي لتيار العلمانيين في المؤتمر.. وعرف لدى المشائخ بأنه رأس الليبراليين.. وعرف لدى اليسار بأنه شوكة الرأسمالية..
إلى ذلك فإن ثقة الغرب عموماً والأمريكان على وجه الخصوص بالإرياني عالية.. وبالتالي كان أحد نقاط جلب الرضا الأمريكي للنظام مقابل السماح له بالتمدد وصناعة اللوبيات الموالية وتكريس الثقافة التي يحب.. وهيكلة الحزب الحاكم وفق ما يشتهي.
للإرياني أجندته الخاصة وبرنامجه الواضح.. ولعل أشهر إنجازاته السوداء علاقة اليمن بجارته الكبرى المملكة العربية السعودية ضمن ما يمكن تسميته ب"صراع الوكلاء"، ذلك أن المملكة كانت هي الأخرى تعد حليف الولايات المتحدة في المنطقة!
وبالطبع أجد من المهم التوضيح أن المشكلة لا تتمثل في أن يكون أحدهم يتمتع بعلاقة طيبة مع الغرب أو الشرق.. ويوظف هذه العلاقات في خدمة شعبه. المشكلة هي أن يوظف شعبه في خدمة هذه العلاقات..
في برنامج الإرياني لتأزيم علاقة اليمن بالمملكة والدأب المتواصل على استفزازها وإفشال خطوات التقارب.. كان الإرياني بارعاً وكان الوطن هو الخاسر الوحيد، وخصوصاً بعد أن هندس مسألة التحالف مع قطر لمزيد من إقلاق المملكة ليخرج اليمن في الأخير بلا هذا ولا ذاك.. يتصالح السعوديون والقطريون ولكن بعد أن نشأ خيط متذبذب من عدم الثقة بين اليمن والمملكة جراء فنون الإغاضة التي أظهرها الإرياني لقادة الرياض على مدى عقود..
بعد حرب 94 جلب الإرياني البنك الدولي.. وأحكم سيطرة الأجانب على إعادة صياغة هياكل الدولة.. وأسس لظهور فئة المترفين الجدد والبرجوازية المخملية التي تفكر بشكل برجماتي وأناني ولا تعبأ بالشعب.
من هنا وقف بحزم لإفشال فرج بن غانم الذي تولى رئاسة الوزراء لأشهر بعد 27 أبريل 1997.. وتمكن من دفعه إلى تقديم الاستقالة كم تمكن من دفع الرئيس إلى قبولها.. لأجدني في العام 1998 ضمن متظاهرين ينددون بالإرياني وسياسات حكومة الإرياني على اثر جرعة باهظة.
إلى ذلك واصل مسلسل إزاحة القوى الوطنية التي لا تعجب البيت الأبيض سواء اليسار أو القوميين أو الإسلاميين أو الأعيان والمشائخ.. وكان جريئاً ومقداماً في تثبيت أقاربه في أهم مفاصل الدولة وخصوصاً الخارجية وهي جرأة قلما تجد لها نظيراً إلا عند اخواننا الهاشميين.
فور توليه رئاسة الوزراء أنشد الشاعر الساخر مقبل نصر غالب:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم .. وفي زحمة الفئران يُفتقدُ الهرُّ
بعدها تفرغ الدكتور كأمين عام للمؤتمر الشعبي العام وقام بتصعيد من يريد مزيحاً الكثير من القوى التي لم تتلمذ على موائد البورجر والبتزا وموسيقى الروك..
سقطت حكومته بفعل التناحر فيما بينها وبفعل فظاظة تعامله مع معاناة الشعب.. مع هذا لم يخل خروجه من الحكومة من مضار جانبية كان أقلها –حسب علمي- حصار الزميل مطهر الأشموري وإيقاف راتبه بسبب مقال كتبه في صحيفة "الوطن" القطرية التي يراسلها من صنعاء.
وفي قطر.. جلس الرجل بكل تاريخه السياسي المغيض وإلى جانبه اللواء أركان حرب علي محسن الأحمر للتفاوض مع شخص يدعى صالح الهبرة ممثل المتمرد الذي ظهر في صعدة العام 2004 والمدعو الحوثي.. (مهزلة)! هذا بعد أن توقف الرجلان أربع ساعات في مطار صنعاء إثر بلاغ كاذب عن وجود قنبلة في الطائرة التي كانا سيستقلانها ما اضطرهما إلى ركوب أخرى وتأخر ساعات!!
في صنعاء أعطاه النظام "مكافأة نهاية الخدمة".. وإقليمياً أصبح لأمريكا العشرات بل المئات من الأصابع والأيدي والألسن ليتفرغ السياسي الجهبذ لحوار الحضارات والتنظير لمزيد من الزمن الأمريكي الفج.
ذهب الإرياني إلى مضمار الندوات والسفريات وأوراق العمل مخلفاً نسخاً كثيرة منه تفتقر إلى دهائه ولباقته لكنها تحسن التوتير والإثراء وإلحاق الضرر.