أرشيف الرأي

اليمن.. آمال وحدوية في زمن الانقسام

صحيح أن المزاج السياسي لأكثرية المتحاورين في مؤتمر الحوار السياسي اليمني وكذا ‏الاتجاه العام يسير في إقرار الفدرالية، والجدل تمحور فقط في إقليمين أو أكثر من إقليم، وكأن ‏هموم ومشاكل اليمن قد انحصرت في عدد الأقاليم.!‏

ولكنه ليس بالضرورة أن هذا التيار يعبر عن رؤية وتوجه سواد الشعب والأغلبية الصامتة ‏ولكنه فقط انعكاس لرؤية المتحاورين أنفسهم وتعبير عن توافق زائف ووهم مجهول العواقب ‏فهؤلاء النخب المتحاورة لا يمثلون سوى أحزابهم، لقد دلت تجارب الفترة الماضية القصيرة ‏وهي شهور الحوار نفسه أن كل صيغة ورؤية أو مشروع تشريع من هنا آو هناك يلقى جدلا ‏ويصبح بحد ذاته مشكلة أخرى تضاف لتعقيدات الموقف، وأقرب مثل لذلك وثيقة المندوب ‏الأممي لمنظمة الأمم المتحدة إلى اليمن السيد جمال بن عمر لإقرار صيغة توافقية لحل القضية ‏الجنوبية والتي وضعت المبعوث الدولي نفسه محل تساؤل وتشكيك رغم انه مجرد رسول ‏أممي يهدف لتقريب رؤى المتحاورين ومن هنا فربما غدا الارتهان للخارج الإقليمي والدولي ‏في مثل هذه الظروف فضيلة سياسية قياسا (لفوبيا الحرب الأهلية) والانزلاق للمحذور ومن هنا ‏فالعامل الخارجي سلاح ذو حدين في هذه الحالة..‏

‏ وأجمالا فأن البعض يحتار بالفعل حول ما آلتّ إليه النخب السياسية المتحاورة ويقينهم ‏بحتمية الحلول الفدرالية وكأنها قدرا مكتوبا لليمن، فقضية المركزية واللامركزية بداهة لها ‏حلولا بديلة لاشك فهناك بدائل واقعية كإقرار صيغة المحافظات الحالية على سبيل المثال ‏بحيث تتوزع الصلاحيات بين تلك المحافظات آو الأقاليم على حساب المركز باستثناء الأمور ‏السيادية تماما كما هو معمول به في الفدراليات فالغاية تبرر الوسيلة، فالفدرالية في البداية ‏والمتهى مجرد أداة لحل إشكال معين ومن هنا فهي ليست غاية في حد ذاتها، فلماذا يهرول ‏اليمنيون لهكذا حلول دون احتساب تداعياتها ولاسيما وإنها تأتي في أجواء متوترة وعلى ‏أنقاض نظام متهالك متداعي ومعلوما بأن أي نظاما سياسيا بصيغة فدرالية اتحادية يتطلب ‏الارتكاز أولاً إلى محور قوي ونواه صلبة في الحكم وتجانس معقول في المكونات ومن ‏تجارب أمم نموذجية في هذا فقد صمد النظام الفدرالي الأمريكي على سبيل المثال لأنه استند ‏إلى انتصار الكتلة التاريخية الشمالية في الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر..‏

ولأنها أتت على قاعدة غالب ومغلوب ولكن بعد التوافق الفدرالي سُنت دساتير تكفل حقوق ‏الجميع ولأن الولايات المتحدة أشبه بالقارة التي يصعب حكمها عبر نظام مركزي اندماجي، ‏وهو الأمر نفسه في بقاع أخرى ففي أوروبا نجحت أنظمة أخرى مشابهة كالاتحاد الفدرالي ‏الألماني والايطالي وكلاهما له تراث وأسس راسخة في الفكر السياسي الغربي لهاذين البلدين ‏أساسها الولاء للأمة، ناهيك عن بصمات أخصائيين قانونيين واقتصاديين وسياسيين محنكين ‏ونحو ذلك وحتى عند أعادة دمج الألمانيتين مجددا غداة أفول نظام الثنائية القطبية كان لها ‏أسس اقتصادية وسياسية وسنت قوانين تحمي هذه الوحدة اقلها حضر تملك الألمان من أصول ‏غربية أن يتملكون في شطرها الشرقي لعشرون سنة قادمة، وفي مقارنة للحالة اليمنية نجد ‏العكس تماما فالمتنفذون في النظام السابق بسطو نفوذهم فنهبوا وسرقوا وعاثوا في الأرض ‏فسادا ناهيك عن تقاعسهم لبناء أسس دولة مدنية فلو تمت ذلك لما كنا اليوم على ما نحن عليه!‏

وعليه فقد نجح النظام الألماني الاتحادي استناداً إلى الثقافة السياسية الألمانية الاتحادية ‏المعمرة، وإلى غنى الشمال ووسائله الضخمة التي وضع القسم الأكبر منها في إعادة تأهيل ‏ألمانيا الشرقية التي كان تخضع لمعايير النظام الاشتراكي، وهو ما تفتقر إليه اليمن التي فقدت ‏مع الربيع العربي كتلتها الشمالية والجنوبية المختلطة التي ربحت حرب العام 1994، فبدلا ‏من معالجة آثار تلك الحرب الظالمة فقد اتجه النظام لسلسلة من التجاوزات والفساد متزامنا مع ‏سياسة الإقصاء والتهميش والاستفراد بالسلطة وظلم كل اليمنيين فضلا عن الاتجاه للتوريث، ‏ناهيك على ان اليمن تفتقر للأموال التي سترفد الفدرالية المنتظرة فكل ما كان عدد الأقاليم أكثر ‏تزداد تكاليفها وتتعقد إدارتها، وفي هذه الحالة في حال قبول أهون الشّرين على أساس إقليمين ‏قد يكون له ميزاته على الأقل الحفاظ على يمنين بدلا من تشرذم محتمل، وهنا تستوقفني قصة ‏الآمرتان اللتان تنازعتا على أمومة طفل فقررتا الاحتكام لدى ألنبي سليمان. سمع سليمان ‏حجج المرأتين وكلتيهما يدعيان أمومة الطفل فنادى على سياف وأمره بشق الطفل إلى نصفين ‏ليحل الخلاف، فاضطربت والدة الطفل الحقيقية وسألت سليمان أن لا يقتله ويعطيه لغريمتها ‏بينما كان رد الأخرى جافا ووافقت على شق الطفل لكي لا يكون لأيهما. حينها علم سليمان ‏أيهم أم الطفل الحقيقية وهي تلك التي آثرت أن تفقد طفلها على أن تراه يقتل!‏

وفي هذا دلالات ومغازي لمدى الولاء الوطني الذي نفتقره والذي ضاع بين هوس السلطة ‏وعدم الإيثار والنرجسية لدى المتحكمين على المشهد السياسي اليوم والذي قد يفضي للتقزيم ‏والتقسيم المحقق. وحتى لو فرض جدلا اقرار اي حل فدرالي فلو كان مبني على اجمع فليس ‏في ذلك مضض، بالعكس سيكون معبرا عن حالة توافق.‏

ومن هنا تقتضي الضرورة امتصاص نزعة البعض من الفصائل الجنوبية من اجل السلطة ‏بمناصفتهم في المراكز السيادية لسنوات محددة لحين تستقر الأمور.‏

اللافت أيضا بأن أدبيات الحوار الوطني منذ نحو تسعة أشهر تفتقر بالفعل إلى أي إرادة ‏للمصالحة الحقيقة الذي لم نجد بصماته لدى سلوك المتحاورين أنفسهم بدليل ان أجواء التوتر ‏لازالت متصاعدة وعليه فهل استفاد اليمنيون من تجارب سابقة في تاريخ اليمن الحديث وكذا ‏في نماذج مشابهه، كالمصالحة بين الملكيين والجمهوريين في نهاية الستينيات من القرن ‏الماضي، ربما كان الجيل الأول أكثر وطنية وشعوراً بالمسئولية التاريخية وتفهما من ‏المتحاورون حاليا، رغم أن الدور الخارجي مشترك في كلا الحالتين، وتختلف الأمور هذه ‏المرة أن اليمنيون مكبلين بمبادرة ملغمة فكلما خطو خطوة تشدهم النصوص ناهيك عن غياب ‏مبدأ الإيثار والتضحية والوطنية بعد ان طغت عقدة التسلط والإقصاء وتشخيص القضية لعداء ‏أقطاب الصراع أنفسهم، فكيف لنا أن نتوقع حلولاً ناجعة ممن كانوا سببا في هذه المشاكل ‏المتلاحقة، فلوا كان النظام السابق قد أرسى أسس دولة مدنية لما حدث كل هذه التعقيدات ‏المتداخلة أصلا!‏

اليمنيون اليوم على مفترق طرق ذلك أن حل كل هذه المعضلات تكمن في قناعة المتحاورين ‏بجدوى ومغزى الحوار والذي يتبلور كل رؤى تلك النخب في توافق على صيغة تجمع ‏اليمنيون على كلمة سواء للخروج بتوافق لعقد اجتماعي جديد ينظم أسس الدولة المدنية التي ‏يتساوى فيها اليمنيون في الحقوق والواجبات يسودها العدل والمساواة فلا إقصاء ولا تهميش ‏دولة تبسط نفوذها في كل أرجاء اليمن لتنشر الأمن والأمان والاستقرار لتبدأ عجلة التنمية ‏والسياحة وجذب الاستثمار، ذلك أن أي ثورة تنشد التغيير تتمحور التحولات في إيجاد صيغة ‏تشريعية تحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم بعد عقود من الاستبداد والحكم المطلق في صيغة ‏تحالف العسكر مع القبيلة وبقية مراكز القوى الطفيلية، وليس من المنطقي ان تنتهي في تهافت ‏الساسة من اجل الاستحواذ بالسلطة آو التقسيم والتقزيم الذي سيزيد الطين بله ويدخل اليمن في ‏سلسلة من الخلافات والتعقيدات نحن في غنى عنها.‏

زر الذهاب إلى الأعلى