سبعة وأربعون يوما تفصل اليمنيين عن انتهاء المرحلة الانتقالية التي حددتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية «المزمنة». ومن الواضح أن صفقات سياسية أخرى يجري بحث تفاصيلها وسلقها بين الأطراف الرئيسة المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني كي يجري الإعلان عن انتهائه والانتقال إلى المرحلة الثانية وهي إعداد الدستور الجديد الذي يفترض أن تكون مواده إسقاطا للنقاشات التي جرت بين الـ565 عضوا الذين فرضوا أنفسهم ممثلين لفئات المجتمع وتوزعوا على فرق العمل التي تشكلت من بينهم.
الأسبوع الماضي شهد صورة مزرية للعمل الحزبي والمستوى الهابط الذي وصل إليه والتقلبات التي تجري في المواقف المعلنة والصراخ الذي يعلو وما يلبث أن يخبو، وظهرت حقيقة المواقف التي ظن أصحابها أنها ستظل طي الكتمان، وأصبح ممثلو الدول العظمى هم أصحاب الرأي الفصل والحاسم في كل ما يجري، وصار الهدف العاجل والأوحد هو التوقف عن نزيف الإنفاق الذي بلغ ملايين الدولارات التي كان بالإمكان صرفها في مجال أكثر إيجابية يمكن الشعور بمردوده المباشر على الصعيد الوطني لولا الجشع الحزبي وتغليب المصالح الشخصية، ومعه توارت وابتعدت مصلحة الوطن.
ستة أشهر استغرقتها أعمال المؤتمر وتعالت أصوات المشاركين الذين ظنوا أنهم صانعو المستقبل كما أوهمهم من دعاهم للمشاركة فيه، بينما هم في الواقع شهود على عملية سياسية سبق رسم خطوطها النهائية وجرى عقد الاتفاقات بشأنها في غرف مغلقة بين ورثة العهد السابق وبمشاركة المبعوث الأممي كعراب لها ومدبر لمخرجاتها، وتلك صورة كاشفة للأسلوب الذي تدير به القوى الكبرى لعبة الأمم وتتحكم في مجرياتها، وهؤلاء لا تهمهم الانعكاسات الداخلية وآثارها على المواطنين، فذلك آخر ما يضعونه في اعتبارهم ولا يقيمون له وزنا أخلاقيا، والمؤسف أنهم يجدون ساسة محليين لا يتورعون عن تقديم إسهاماتهم مقابل الترويج لهم داخليا وخارجيا.
من الصعب أن أجد تفسيرا لما جرى خلال الأشهر الستة الماضية حين نرى اليوم أن محاولات التوصل إلى الاتفاق على الخطوط العريضة لحل القضية الجنوبية، والذي بدوره سيؤدي إلى اتفاق آخر حول الشكل النهائي للدولة، جرى تداوله بعيدا عن «الموفينبيك»، وصار محيرا أن الأطراف التي انتفضت ضده قبل أيام قليلة تراجعت ومهر ممثلوها توقيعاتهم عليه، وقامت بعض الصحف بالحديث على لسان الرئيس هادي عن وجود اتفاق سابق مع الأطراف المعنية.
لكن وبعيدا عن هذه الضجة المفتعلة وما نجم عنها من قلق وتجاذبات يبقى السؤال وتظل الحيرة ويزداد القلق.. وماذا بعد التوقيع؟
لا أشك أن كثيرين ستعلو شفاههم ابتسامات الفرح لما سيجري الإعلان عنه من نجاح لأعمال اللقاءات وستزداد مؤشرات التفاؤل لديهم، وسيبدي المجتمع الدولي سعادته بما جرى تحقيقه والتوقيع عليه، ولكن المؤكد أيضا أن قلة ستظل تظهر قلقها إزاء المنتج الجديد وكيف سيجري تطبيقه أو بالأصح فرضه على الأرض.
إن إبداء التفاؤل حيال القضايا الوطنية لا يجوز أن يكون عن طريق الأمنيات والركون إلى القسر الخارجي، ولكنه يحتاج إلى مؤشرات واقعية وحقائق على الأرض تعزز من حظوظه، كما أن عدم التفاؤل يجب أن يكون مؤسسا على تجارب سابقة ومعطيات ربما يراها هذا الفريق.. وصحيح أيضا أن اليمنيين قد بلغ اليأس بهم حدا صاروا معه ينتظرون بصيص أمل في مستقبل أقل قسوة وظلمة من حاضرهم وماضيهم، وهو ما حاول الرئيس هادي أن يخلقه خلال العامين الماضيين رغم ما يحيط به من كوابح ومطبات.
يتضح الآن أن الوثيقة التي وقعت عليها بعض القوى السياسية الأسبوع الماضي وتخلف الحزب الاشتراكي والناصريون عن المشاركة في مراسيمها، لم تختلف كثيرا – حسب ما نقل على لسان الرئيس هادي - عن اتفاق قديم جرى التوصل إليه قبل بدء مؤتمر الحوار الوطني بينه وبين الحزب الاشتراكي ومن جرى فرضهم حينها لتمثيل الحراك الجنوبي، وقد حدثت تطورات على الأرض في الجنوب دعت الحزب بالذات إلى تغيير موقفه وطرح مشروعه لقيام دولة اتحادية من إقليمين جنوبي وشمالي تكون حدودهما خطوط ما قبل 22 مايو (أيار) 1990، وحينئذ لم يكن حزب الإصلاح وحزب المؤتمر الشعبي قد حسما أمرهما بهذا الخصوص واكتفيا بالتأكيد على ضرورة المحافظة على الوحدة اليمنية كما تتراءى لهما. خلال هذه المرحلة الزمنية تفاقمت الأوضاع في الجنوب بسبب تراخي الحكومة عن القيام بواجباتها تجاه القضايا التي جرى الاعتراف بوجوب تنفيذها وهي ما عرف بالنقاط الـ21، وشكل الرئيس عددا من اللجان لتطبيق بعض بنودها رغم أن شيئا لم يجر على الأرض، كما أن الإهمال الحكومي في تحسين الخدمات الأساسية في الجنوب تفاقم، مما ساهم في اتساع المساحات التي يتمدد فيها أصحاب مشروع فك الارتباط واستعادة الدولة، واختلطت الأوراق نتيجة انشغال قوى المركز المقدس بإعادة ترتيبها بطريقة تحافظ وتعزز مكانتهم في المرحلة التي ستلي 21 فبراير (شباط) 2014، ولم ينتبه هؤلاء إلى أن هذا من شأنه أن يقلب الأوضاع كاملة وستضيع معه كل المكاسب الشخصية التي حققوها خلال أعوام الحصاد الماضية.
في الوقت ذاته، قامت القوى الجديدة بالسعي لتثبيت مواقعها على الأرض عبر اجتياح مواقع خصومهم، كما حدث في صعدة وهو ما قد يصلح تفسيرا لمشاركة «أنصار الله» احتفالية التوقيع على وثيقة مبادئ حل القضية الجنوبية رغم أنهم أعلنوا قبلها دعمهم فكرة العودة إلى خطوط ما قبل الوحدة، وفي هذا انتهازية سياسية تفسيرها أن التنفيذ لا علاقة له بالتوقيع وأن القوة هي الفيصل، وعليه فقد فرضوا سيطرتهم على المناطق التي استطاعوا الوصول إليها بالقوة وبإضعاف خصومهم فيها.
الأيام المتبقية من الفترة الانتقالية ستشهد المزيد من التدخلات الخارجية والإغراءات الداخلية، ولكن التطبيق على الأرض لن يكون خاضعا لها بعد ذلك، ويتجلى أمامي المشهد في جنوب السودان وما يدور بين شركاء الانفصال من حروب لم تكن جذور اشتعالها غائبة عن أذهان الذين دفعوا وسعوا لإنجازه، ولكنهم تجاهلوا عن عمد أن البيئة الحاضنة للنزاعات لا تخمد جذوة نارها بالتوقيع والاحتفال وتبادل الأنخاب.. ومن هنا فإنني أرى مشهدا كئيبا لا بد أن الرئيس هادي هو أقدر وأكثر من يستطيع التنبؤ بتفاصيله وبنتائجه، ولن تكون أساليب الماضي مجدية معه، وعليه ألا يكرر أخطاء سلفه في الاستعانة بالذين تتقلب مواقفهم بتغير وجوه أسيادهم والذين يبذلون كل جهد لنيل الرضا بالابتذال والنفاق والدس الرخيص، وهو أكثر من يدرك أن القادم أكثر صعوبة وأشد قسوة ويحتاج إلى مواجهة وشجاعة وجرأة.