كانت أمي - رحمها الله - تحكي لي قصة عسكري الإمام ، كانت تسميه العكفي . العسكري الذي يظهر نهارا من قمة الجبل ، ثم يضرب البورزان ، كانت أمي تسميه البورزان ولم أسألها يومها ماهو البورزان ، يسمع الرعايا صوت البورزان ثم يختبئون مرعوبين خارج بيوتهم ، وحين يصل الوحش إلى الضحية لا يدخل الباب إلا بعد أن يهدم الضحية بعض الباب ، كانت الأبواب ضيقة مثل عقول الأئمة ، وكانو يفتحونها كي يدخل العكفي بسلاحه على نحو أفقي (معرّض كما تصف أمي).
يذبح الدحاجة ويكسر بيضها بعبثية على عتبة الدار ، ثم يهرق ماتبقى للضحية من إنسانية ثم يمضي مخلفا وطنا مذبوحا وإنسانا على شكل فجيعة.
في قريتنا يتذكر القدامى حتى الآن رعب الجوع ، لقد مات أطفالهم جوعا بين أيديهم كما يحكون ، قال لي أحدهم " هذا قبر أخي ، اشتم رائحة الخبز القادمة من أحد البيوت ، شهق شهقة ومات " ، أما من يقدر على الهجرة فقد ترك كل شيء في رحلة تنتهي كثيرا بالضياع والفقدان ، تلتهمهم الحياة بقسوة وهم يهربون من وطأة العكفي.
في عيد الثورة من كل عام ، وفي قريتنا التائهة عن الخارطة والخدمة ، كان صاحب الماطور يشغل الكهرباء صباحا ، يجتمع كل أبناء البلدة التي لم تر الثورة ، لكنها رأت العكفي ، يستمتعون بعرض الجيش ويطمئنون على رحلة الثورة التي هزمت العكفي المتطرف.
كل دروس التربية الوطنية التي درستها كانت أقل من درس أمي ، ماتت أمي رحمها الله دون أن تبصر ضوء الجمهورية ، لكنها علمتني أن الجمهورية خيط ضوء صنعه الأحرار من شرايينهم ، يذبل ولكن لا يموت.
لهذا ، وبعيدا عن المناهج التعليمية التي تقدس الوطن والجمهورية على طريقة المرابين ، سيتذكر هذا الجيل حكايات الجدات والأمهات ، وهي الحكايات التي ستغسل كل هذا الزيف الملون.