[esi views ttl="1"]

دماج جغرافية المذهب وصراع الأفكار.. الشيخ مقبل الوادعي أنموذجاً

ترجمة:‏
الشيخ مقْبل بن هادِي بنِ مقْبِلِ بنِ قائِدة (اسم رجل) الهمْداني الوادعِي رحمه الله، هو أحد ‏علماء السلفية باليمن وأحد رواد الحديث، قام بالدعوة السلفية في اليمن، وأنشأ مدرسة علمية ‏سلفية بدماج سماها بدار الحديث يفد إليها الطلاب من أنحاء اليمن، ومن بلدان أخرى، وتخرّج ‏على يديه شيوخ أنشئوا مدارس في عدد من مناطق اليمن.‏

ولد في قرية دماج التابعة لمحافظة صعدة باليمن، ولم يؤرخ ميلاده على وجه التحديد ؛ لكونه ‏نشأ في بيئة أمِّية، ولكن يعتقد أنه في حدود عام 1351ه، وقد نشأ يتيماً لأب، وهو من قبيلة ‏وادعة من همْدان.‏

ويقول الشيخ رحمه الله عن نفسه:«أنا مقبل بن هادي بن مقبل بن قائدة الهمداني الوادعي ‏الخلالي، من قبيلة آل راشد. وشيباتنا يقولون: إن وادعة من بكيل، وادعة في بلاد شتي من ‏البلاد اليمنية، وأكبرها فيما أعلم الساكنون بلواء صعدة، فهم يسكنون بدماج شرقي صعدة، ‏وبصحوة في أعلى دماج تحت جبل براش، وبالدرب، وآل حجاج، والطلول بين شرقي صعدة ‏وجنوبها، وبشمال صعدة الزور، وآل نائل، وآل رطاس، والرزامات في وادي نشور».‏

ويضيف قائلا: «وإني أحمد الله، فغالب وادعة الذين هم بجوار صعدة يدافع عني وعن ‏الدعوة، بعضهم بدافع الدين، وبعضهم بدافع التعصب القبلي، ولولا الله ثم هم لما أبقى لنا أعداء ‏الدعوة، خصوصاً شيعة صعدة، عيناً ولا أثراً.‏

وكان الشيخ مقبل -رحمه الله- منذ بداية شبابه محباً للعلم والعلماء ؛ لأجل ذلك وفد إلى جامع ‏الهادي في صعدة، وأخذ يدرس اللغة والنحو، ولكنه نفر من دراسة المذهب الزيدي ؛ لأنه وجد ‏فيه انحراف المعتزلة وغلو الشيعة، رغم أنه ولد ونشأ في بيئة زيدية شيعية، وأخذ وتتلمذ على ‏العلامة والمرجع الزيدي مجد الدين المؤيدي، إلا أنه مال إلى الكتاب والسنة على فهم السلف ‏الصالح.‏

ويقول الشيخ عن تلك الفترة:«كنت محباً لطلب العلم، وطلبت العلم في (جامع الهادي) فلم ‏أساعد على طلب العلم، وبعد زمن اغتربت إلى أرض الحرمين ونجد، فكنت أسمع الواعظين ‏ويعجبني وعظهم، فاستنصحت بعض الواعظين ما هي الكتب المفيدة حتى أشتريها؟ فأرشدني ‏إلى (صحيح البخاري)، و(بلوغ المرام)، و(رياض الصالحين)، و(فتح المجيد شرح كتاب ‏التوحيد)، وكنت حارساً في عمارة في الحجون بمكة، فعكفت على تلك الكتب، وكانت تعلق ‏بالذهن لأن العمل في بلدنا على خلاف ما فيها، خصوصاً (فتح المجيد).‏

وبعد مدة من الزمن رجعت إلى بلدي أنكر كل ما رأيته يخالف ما في تلك الكتب من الذبح ‏لغير الله، وبناء القباب على الأموات، ونداء الأموات، فبلغ الشيعة ذلك، فأنكروا ما أنا عليه، ‏فقائل منهم يقول: من بدل دينه فاقتلوه، والآخر يرسل إلى أقربائي ويقول: إن لم تمنعوه ‏فسنسجنه، وبعد ذلك قرروا أن يدخلوني (جامع الهادي) من أجل الدراسة عندهم لإزالة ‏الشبهات التي قد علقت بقلبي، وبعد ذلك دخلت للدراسة عندهم في جامع الهادي، ومدير ‏الدراسة القاضي (مطهر حنش)، فدرست في (العقد الثمين)، وفي (الثلاثين المسألة وشرحها) ‏لحابس، ومن الذين درسونا فيها (محمد بن حسن المتميز) وكنا في مسألة الرؤية، فصار يسخر ‏من ابن خزيمة وغيره من أئمة أهل السنة، وأنا أكتم عقيدتي، إلا أني ضعفت عن وضع اليد ‏اليمني على اليسرى في الصلاة وأرسلت يدي، ودرسنا في (متن الأزهار) إلى النكاح مفهوماً ‏ومنطوقاً، وفي شرح الفرائض كتاب ضخم فوق مستوانا فلم أستفد منه.‏

فلما رأيت الكتب المدرّسة غير مفيدة حاشا النحو فإني درست عندهم (الآجرومية) و(قطر ‏الندى)، ثم طلبت من القاضي (قاسم بن يحيي شويل) أن يدرسني في (بلوغ المرام) وبدأنا فيه، ‏وأنكر علينا ذلك ثم تركنا، فلما رأيت أن الكتب المقررة شيعية معتزلية قررت الإقبال على ‏النحو فدرست (قطر الندى) مراراً على (إسماعيل حطبة) رحمه الله في المسجد الذي أسكن ‏ويصلي فيه، وكان يهتم بنا غاية الاهتمام، وفي ذات مرة أتى إلى المسجد (محمد بن حورية) ‏فنصحته أن يترك التنجيم، فنصحهم أن يطردوني من الدراسة، فشفعوا لي عنده وسكت، وكان ‏يمر بنا بعض الشيعة ونحن ندرس في (القطر) ويقول: «قبيلي صبن غرارة» بمعنى أن ‏التعليم لا يؤثر فيّ، وأنا أسكت وأستفيد في النحو» انتهى كلام الشيخ رحمه الله.‏

وفي هذا الكلام مسائل مهمة ينبغي التوقف عندها والإشارة إليها ؛ فإن الشيعة الزيدية لما ‏رأوا الشيخ ينكر عليهم بعض البدع والمنكرات، قال قائل منهم اقتلوه، وقال الآخر اسجنوه، ‏وقال أعدلهم اذهبوا به للدراسة بجامع الهادي غصباً إكراهاً، بهدف غسل دماغه من كتب السنة ‏وإزالة الشبهات من رأسه حسب اعتقادهم، ومع أنه درس بعض كتبهم، مثل: (الأزهار، والعقد ‏الثمين، و الثلاثين مسألة) ؛ إلا أن كتب السنة والحديث والأخذ بالدليل قد شعشع في قلبه وأنار ‏الله به بصيرته، وهذا من فضل الله ورحمته ومشيئته. فهذا الشاب المحب للعلم، والذي أردوا ‏أن يزيلوا الشبهات من رأسه، أصبح علما من أعلام السنة، وأسس في عقر دارهم منارة من ‏منارات العلم، وجامعة من جامعات الحديث، ولم يكن الشيخ مقبل أول ولا آخر عالم خرج من ‏ضيق المذهب الزيدي إلى سعة الاتباع للنبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد سبقه إلى ‏ذلك عدد كبير من أئمة اليمن الأعلام، منهم: ابن الوزير، والمقبلي، والصنعاني، والشوكاني.. ‏وغيرهم، وفي صعدة معقل المذهب، ومنطلق الدولة الزيدية، ظهر ضياء السنة، وارتفع لواؤها ‏بفضل الله، ثم الشيخ وجهوده.‏

والمسألة الثانية التي تتطلب الوقوف عندها قول الشيخ كما سبق ذكره: «يمر بنا بعض ‏الشيعة ونحن ندرس في (القطر) ويقول: «قبيلي صبن غرارة» بمعنى أن التعليم لا يؤثر فيّ ‏وأنا أسكت!! وحسب ما ذهب إليه الزميل نبيل البكيري ؛ فإن «ملاحظة الوادعي لذلك ‏الازدراء من قبل علماء الزيدية الهاشميين له ولأمثاله من أبناء القبائل، لم يكن مجرد صدفة، ‏بل كانت هي التطبيق الطبيعي لنظرية البطنين الجينية الثيوقراطية الصارمة، التي تعلي من ‏شأن سلالة بعينها على حساب الآخرين، في تعارض صارخ مع أبسط حقوق الإنسان، ‏كالمساواة وتكريم الإنسان بعمله لا بنسبه، ولكنه أثناء فترة تعلمه كان ينظر إليه كقبيلي بدوي ‏لا يصلح للعلم كغيره من أبناء القبائل اليمنية ؛ كون العلم كالحكم -بحسب نظرية الهادي- لا ‏يصلح له سوى الهاشميين السادة فقط».‏

والحاصل أن الشيخ بعد ذلك هاجر للسعودية للعمل والدراسة، وهناك أخذ العلم على كبار ‏العلماء، وواضب على حلقات العلم في المساجد، ثم التحق في دراسته الجامعية بالجامعة ‏الإسلامية بالمدينة المنورة، وهناك انتظم في دراسته بكلية الدعوة وأصول الدين وانتسب إلى ‏كلية الشريعة، فحصل على شهادتين، وعقب الحصول على البكالوريوس من الكلّيتين في ‏‏1394ه و1395ه -على التوالي- سجل في الدراسات العليا، وأنهى تحقيق كتابي (الإلزامات ‏والتتبع) للدارقطني ليحصل على درجة الماجستير بجدارة.‏

وقد عاد الشيخ مقبل إلى اليمن على إثر حادثة الحرم عام 1400ه ؛ ليستقر في دماج، وينطلق ‏بدعوته السنية إلى آفاق اليمن، مشعلا جذوة من الحركة العلمية والدعوة السلفية التي لم تقف ‏حيث وقف الشيخ في اجتهاده، وإنما أخذت بالمنهج السني الذي نبه إليه الشيخ والفهم السلفي ‏الذي صدر منه في دعوته.‏

وفي دماج أسس الشيخ (دار الحديث) لتكون مركزا ومنطلقا لدعوته، وهناك بدأ استقباله ‏للراغبين في طلب العلم، وانتشر صيتها في أنحاء اليمن، حيث درس الشيخ فيها العقيدة والفقه ‏والحديث واللغة، وكانت الدراسة تعقد في المسجد كما جرت به العادة، مع توفير السكن ‏والغذاء للطلاب، وبلغ الإقبال إليها من الدول العربية، ومؤخرا من الدول الإسلامية والغربية ‏عموما.‏

ومنذ البداية ظهر حقد الشيعة وعدواتهم للدعوة السلفية السنية، وأول أعمالهم العدوانية أنهم ‏منعوا وصول مكتبة الشيخ إلى مركز دماج، بحجة أنها كتب (وهابية) وقد أخذ الأمر قدر كبير ‏من الإشكال والأخذ والرد، حتى وصل الموضوع إلى رئيس الجمهورية السابق علي عبدالله ‏صالح، وتدخل بعض مشايخ القبائل، ومنهم: الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، والشيخ هزاع ‏ضبعان، ومنهم القاضي يحيى الفسيل، والشيخ عائض بن علي مسمار، والشيخ قائد مجلي ؛ ‏وفي الأخير تم تسلّم الشيخ المكتبة.‏
ويحدثنا الشيخ رحمه الله عن حادثة حصلت له قائلا: «طلبني مسؤول، فدخل معي إليه ‏‏(حسين بن قائد مجلي) فتكلم على الشيعة، وشرح له أننا ندعو إلى الكتاب والسنة، وأن الشيعة ‏حسدونا على ذلك، ويخافون أن تظهر الحقائق، فقال المسؤول: إن الشيعة سوّدت تاريخ اليمن، ‏وما دامت دعوتك كذلك فادع ونحن معك».‏

وقد كانت دعوة الشيخ مقبل موضع ترحيب عدد كبير من قبائل صعدة، وفتحت قلوبها ‏لدعوته ولطلابه الذين كانوا يخرجون للمحاضرات والخطب والدعوة، في رازح و خولان ‏عامر و كنى أو المهاذر أو بني عوير أو غير ذلك من مناطق سحار وهمدان ووائلة.‏

ولم يبق على التعصب المذهبي سوى مناطق محدودة، مثل: ضحيان ورحبان والطلح، ‏وبعض مناطق ساقين في خولان عامر. ولا شك أن مثل هذا التحول والانتشار للسنة في منطقة ‏صعدة التي تعد قلعة الزيدية الهادوية ومنطلقها في اليمن، قد أثار ذلك حفيظة علماء الزيدية، ‏وخاصة المتعصبين منهم ممن تأثر بزخم الثورة الإيرانية الخمينية في مطلع الثمانينيات من ‏القرن الماضي، غير أن التعايش السلمي ظل هو السائد بين الجميع كما هو الحال في بقية ‏مناطق اليمن.‏

الشيخ مقبل ومعاركه الفكرية مع علماء الزيدية:‏
لقد دخل الشيخ مقبل في معارك فكرية وعلمية مع بعض علماء الزيدية، وعلى رأسهم ‏العلامة بدر الدين الحوثي، فكتب الشيخ عدداً من الكتب والرسائل منتقدا عقائد الشيعة ‏وانحرافات الزيدية، ومن ذلك كتاب (رياض الجنة في الرد على أعداء السنة)، و(الطليعة في ‏الرد على غلاة الشيعة) وغيرها، يقول الشيخ عن هذه الكتب إنها: «قرّت بها أعين أهل السنة، ‏وتنافسوا بحمد الله في اقتنائها، وقد أحدثت ضجة بين القبائل، أما المخرّفون فلا تسأل عن ‏غيظهم، وما أكثر الدعايات التي بثوها بين القبائل ؛ فتارة يقولون يسبّ علي بن أبي طالب، ‏وأخرى يسبّ أهل البيت.. والله يعلم أني ما ألّفت هذه الرسائل للمراء والجدل، ولكن ألّفتها ‏لبيان الحق، وما ضرني بعد هذا أن يقولوا أنني كذاب "سيعْلمون غدًا منِ الْكذاب الْأشِر"».‏

وعن تلك الكتب يقول بدر الدين الحوثي في كتابه (تحرير الأفكار): «لمّا سمعت الفرقة ‏الناجية والعصابة الهادية بما يحاك ضد الحق وأهله، فقام العلماء للإرشاد والتعليم، وجدّ ‏الطلاب في التعلّم وطلب التحقيق، بحركة من الفريقين زائدة على العادة، واهتمام لكشف كيد ‏الأعداء، وذلك لما انتشرت في البلاد كتب المخربين، وظهرت مكائد المفسدين، ومن ذلك ‏كتاب مقبل، المشتمل على ثلاثة كتب: (الرياض، والطليعة، والرسالة) الداعية إلى تخريب قبة ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».‏

وكتاب (تحرير الأفكار) ألّفه بدر الدين الحوثي ردا مباشرا على كتب ورسائل الشيخ هادي، ‏وكما يذكر بدر الدين فقد: «كان بعض الإخوان أيدهم الله قد أشار بالإعراض عنه ؛ لأن في ‏الإعراض عنه المعارضة له بنقيض قصده، لأنهم يرون صنيع مقبل غرضه فيه التصنع لدى ‏أسياده، ليبذلوا له الأموال الجزيلة، وترتفع درجته عندهم، ويرون في الإعراض عنه إخمالاً لما ‏جاء به، وتفويتاً لذلك الغرض، أما قيام العلماء ضدّه فهو تشهير به وبما جاء به، وذلك غاية ‏مرامه منهم، لتكون النتيجة ما ينال من المال والجاه عند أسياده، ولكني رأيت الدفع عن الحق ‏أهم من المعارضة المذكورة ؛ لأن في كتابه ما قد يغتر به بعض القاصرين، فتكون المفسدة في ‏ذلك أعظم، فشرعت في الجواب، وبالله التوفيق إلى الصواب».‏

ثم أخذ بدر الدين بالرد على الشيخ مقبل مسألة مسألة، وبعيدا عن الخطأ والصواب والحق ‏والباطل، فقد جاء رد الحوثي علميا وموثقا وفق معتقداته وقناعاته، مثلما جاء نقد الشيخ مقبل ‏علميا ومدعما بالدليل من الكتاب والسنة واتفاق الأمة، لقد كانت معركة فكرية ومناظرة ‏علمية، صحيح أن الخصومة شديدة والاختلافات كبيرة والتباينات عميقة، إلا أن القضية تبقى ‏محصورة في نطاقها الفكري وإطارها العلمي، معركة الكلمة والرأي، لا معركة الرصاصة ‏والقنص.‏

والحق أن ما دار بين الرجلين، الوادعي الرمز والحوثي الأب، يحتاج إلى دراسة ونظر ‏وبحث واستقراء، لا يسمح المقام في هذا المقال للتطرق إليها والغوص في ثناياها، لعلّ الله ‏ييسر ويوفق للقيام بذلك في وقت آخر، وبالجملة ومع أن المعركة كانت بين الرجلين بصورة ‏مباشرة، إلا أنها في الأساس معركة أفكار ومعتقدات وعقائد وتيارات ومذاهب.‏

فالشيخ مقبل يمثل التيار السني السلفي، والحوثي يمثل التيار الشيعي، الوادعي امتداد لابن ‏الوزير وابن الأمير والشوكاني ومدرسة الاجتهاد والتجديد والبحث والدليل، والحوثي امتداد ‏لعبد الله بن حمزة، وأحمد بن سليمان، وابن حريوة السماوي، ومدرسة التمذهب والتعصب ‏والجمود والتقليد. ولا شك أن التعصب والتقليد والتمذهب آفة كبيرة ومرض يصيب الكثير من ‏أهل العلم، ولذلك أسباب عديدة ذكرها الإمام الشوكاني في كتابه (أدب الطلب) ومنها:‏
‏- النشوء في بلد متمذهب بمذهب معيّن.‏
‏- حب الشرف والمال.‏
‏- الجدال والمراء وحب الظّهور.‏
‏- حب القرابة والتعصب للأجداد.‏
‏- صعوبة الرجوع إلى الحق لقوله بخلافه.‏
‏- كون المنافس المتكلم بالحق صغير السن أو الشأن.‏

وكما يؤكد الإمام الشوكاني فإن «النشوء فِي بلد متمذهب بمذهب معين هو أكْثرها وقوعا ‏وأشدها بلاء أن ينشأ طالب الْعلم في بلد من الْبلدانِ الّتِي قد تمذهب أهلها بِمذهب معين واقْتدوا ‏بعالم مخْصوص، وهذا الدّاء قد طبق في بلاد الْإِسْلام وعم أهلها، وهؤلاءِ الّذين ألّفوا هذِه ‏الْمذاهب قد صاروا يعْتقِدون أنّها هِي الشّرِيعة، وأن ما خرج عنْها خارج عن الدّين مباين ‏لسبيل الْمؤمنِين، فأهل هذا الْمذْهب يعْتقِدون أن الْحق بِأيْدِيهِم، وأن غيرهم على الْخطأ ‏والضلال والبدعة، وأهل الْمذْهب الآخر يقابلونهم بِمثل ذلِك، والسّبب أنهم نشأوا فوجدوا آباءهم ‏وسائِر قراباتهم على ذلِك، وإِذا وجد فيهم من يعرف الْحق فهو لا يسْتطِيع أن ينْطق بذلك مع ‏أخص خواصه وأقرب قرابته فضلا عن غيره، لما يخافه على نفسه أو على ماله أو على جاهه، ‏بِحسب اخْتِلاف الْمقاصِد وتباين العزائم الدِّينِيّة، فيحصل من قصورهم مع تغير فطرهم بِمن ‏أرشدهم إِلى الْبقاء على ما هم عليْهِ، وأنه الْحق وخلافه الْباطِل وسكوت من له فطنة ولدينه ‏عرفان وعِنْده إنصاف عن تعليمهم معالم الْإِنْصاف وهدايتهم إِلى طرق الحق ما يوجب ‏جمودهم على ما هم عليْهِ، واعتقادهم أن الْحق مقْصور عليْهِ منحصر فِيهِ، وأن غيره ليْس من ‏الدّين ولا هو من الْحق، فإِذا سمع عالما من الْعلماء يفْتي بِخِلافِهِ أو يعْمل على ما لا يوافقه ‏اعْتقد أنه من أهل الضلال ومن الدعاة إِلى الْبِدْعة، وهذا إِذا عجز عن إِنْزال الضّرر بِهِ بِيدِهِ أو ‏لِسانه، فإِن تمكّن من ذلِك فعله معْتقدًا أنه من أعظم ما يتقرّب بِهِ إِلى الله».‏

وما حكاه الشوكاني هو واقع الحال الذي عاشه وخبره بنفسه من يكالب المتعصبين والمقلدين ‏عليه وإيذائه، كما فعلوا مع من سبقه من العلماء المجتهدين والأئمة المجددين ومن جاء بعده، ‏ممن خلعوا ربقة التقليد والتمذهب، ونبذوا الجمود والتعصب، وانطلقوا في آفاق الاجتهاد ‏والتجديد، ولم يستسلموا للبيئة والنشأة في جغرافية المذهب وجمود الأفكار.‏

ونحسب الشيخ مقبل بن هادي الوادعي من هؤلاء، وهذا لا يعني أن الرجل معصوم من ‏الخطاء أو محصن من النقد والرد عليه، فقد كان له وعليه ولكننا في هذا المقام لا نبحث في ‏حسناته وسيئاته، وإنما نتحدث عن جهده واجتهاده في مقارعته للتعصب المذهبي وموقفه من ‏التشيع الزيدي الهادوي، والذي استمر عليه حتى وفاته رحمه الله.‏

واستمر طلابه وتلاميذه على نفس المنهج والموقف من انحرافات الشيعة وغلاة الزيدية، ومع ‏بروز الحركة الحوثية والتمرد على الدولة واندلاع المواجهات المسلحة، إلا أن طلاب العلم في ‏مركز دماج ظلوا على منهجهم العلمي في التعامل مع المخالف والموقف من التشيع، ولم ‏ينخرطوا في أي عمل مسلح أو مارسوا العنف أو استخدموا القوة، مع قربهم الجغرافي من ‏مسرح المواجهات وميدان المعركة، وأخذوا مبدأ الحياد، وواصلوا مسيرتهم العلمية كالمعتاد، ‏لدرجة أنهم لم يتنبهوا أن الدور سيأتي عليهم، وأن الحوثين يتربصون بهم الدوائر.‏

ولا شك أن هذا من غفلة الصالحين، وسوء التدبير والتقدير، وقلة الوعي بالأحداث ‏والمستجدات، وغياب فقه الأولويات وغيرها من العوامل والأسباب، فلم يستيقظوا إلا على ‏أصوات الرصاص ووحشية العدوان الذي شنته عصابات الإجرام على مركز دماج أواخر عام ‏‏2011م، ومع أنه لا مقارنة بين الطرفين، من حيث القوة والعدة والعتاد والتسليح ؛ فقد استطاع ‏أهالي دماج بفضل الله صدّ العدوان والدفاع عن أنفسهم، وقام رجال القبائل وشباب الدعوة ‏والصادقون والشرفاء، بواجب النصرة، وتشكيل جبهة كتاف، والزحف نحو صعدة لفك ‏الحصار عن دماج، وإحداث توازن في القوة.‏

وحسب موقع مأرب برس ؛ فقد تزامن مع ذلك صمت مطبق من قبل السلطات، وتقاعس عن ‏القيام بواجباتها في حماية المواطنين وإيقاف المعتدين، فضلًا عن ردعهم ومحاسبتهم، بل ‏تجاوزت السلطات ذلك إلى تمويل جماعة الحوثي - حسب اتهامات من أطراف عدة، أفادتها ‏تقارير صحفية وإعلامية، نشرت في حينه.‏

ونتيجة صمت الحكومة تحالفت عدد من القبائل اليمنية لنصرة السلفيين، وكان من أهم ‏القبائل المنضوية في هذا التحالف: وائلة، ذو حسين، آل جعيد، عبيدة، بني عوير، سحار، ‏حاشد، مراد، بني ضبيان.‏

وبحسب الإحصائيات والمصادر الخاصة فإن المعارك التي دامت – في جبهة كتاف - ثلاثة ‏أشهر، قد كبدت تلك القبائل قرابة 70 قتيلًا، ونحو 200 جريح و8 مفقودين، إضافة إلى خسائر ‏في المعدات.‏

وقد شكلت القبائل، وعلى رأسها قبيلة وائلة، حلفا للنصرة، إنه حلف الفضول الجديد، ‏ومعسكر الحق المبين، وجبهة الدفاع عن الدين والنفس والعرض والمال، إنها ظاهرة فريدة، ‏وتجربة رائدة في توحد وتكاتف وتعاون أهل الحق والخير والنصرة.‏

لقد كان تشكيل حلف يجمع القبائل اليمنية من أهل السنة والنصرة واجباً شرعياً وواقعياً ‏لمواجهة العدوان الحوثي النازي، وقد جاء حصار دماج والعدوان الذي وقع عليها سبباً لإقامة ‏هذا الحلف وتأسيس هذه الجبهة، وهذا الحلف ليس له دوافع حزبية أو سياسية أو مذهبية أو ‏سلالية أو مناطقية، وإنما يهدف -حسب ما ورد في بنوده إلى قيام الموقعين على وثيقة الحلف- ‏إلى المناصرة في حال وقع ظلم واعتداء من الحوثي، وأن يتعاون أبناء الحلف بتأمين طرق ‏تواجدهم، وأن يتوصلوا إلى هدنة بين أبناء قبائل الحلف، ويعتبر هذا الحلف عهداً لله بين أبنائه ‏الموقعين عليه، وأن بنوده قابلة للتعديل والإضافة.‏

وقد كان موقف قبائل الحلف واضحاً وصريحاً وحاسماً وشجاعاً ؛ فقد كان موقفهم قائما على ‏أسس وبنود، ومن أهمها وأبرزها: إن كان الحوثي يريد أن يعيش مواطناً كسائر المواطنين في ‏جميع المحافظات، فنحن مستعدون للتحاور والتعايش معه، وأن يعودوا مواطنين مثلهم مثل ‏غيرهم، لهم من الحقوق مثل ما عليهم من الواجبات، فإن هم استجابوا لذلك ولن يفعلوا دخل ‏الناس في صلح وتصالحٍ وأدى ذلك إلى التعايش.‏

وبعد أن أدركهم الغرق وشعروا بالهزيمة والانكسار طلب الحوثيون الوساطة والصلح، ‏كعمل تكتيكي, وهذه هي عادة الشرذمة الحوثية عندما تجد نفسها في هزائم متلاحقة، وتضييق ‏للخناق ويدركهم الغرق، يطلبون الوساطة لأجل الاستعداد لمواجهة قادمة ومعركة أخرى.‏

وبالفعل فقد جاء العدوان الثاني على دماج أواخر 2013م أكثر وحشية ودموية لدرجة الإبادة ‏الجماعية، والحق أن ما حدث ويحدث في منطقة دماج من حصار ظالم وعدوان غاشم يشكل ‏لحظة تاريخية فارقة في مسيرة هذه الفرقة الضالة والمجاميع المضللة. إن الحوثيين ماتوقفوا ‏يوماً واحداً عن التخريب والقتل والتوسع والانتشار والتقطع والاستفزاز، والهدم والتخريب ‏والإثارة والفتنة، حاربوا وقاتلوا الدولة والمجتمع والأحزاب والجماعات، ونسي الحوثيون ‏وأنصارهم والمتعاطفون معهم أن الحق لا يسقط بالتقادم، وأن الباطل لا يترسخ بالقوة ‏العسكرية والإعلامية والمناورات السياسية والتسريبات والشائعات والأكاذيب والأباطيل، وإن ‏ما يردده الحوثيون عن أنهم يستهدفون دماج بسبب وجود (أجانب) لا يعد أن يكون كذباً ‏وتضليلاً ودجلاً وتزييفاً.‏

وهم يعرفون أننا نعرف أن السبب والعامل الحقيقي وراء هذه الاعتداءات الغاشمة والحرب ‏الظالمة على دماج المسالمة، هو سبب طائفي وعامل مذهبي، يتمثل بوجود مركز سني بحجم ‏مركز دماج في محافظة زيدية كما يزعمون، وهذا الأمر لم يعد سرا وليس جديدا ولا غريبا ‏على جماعة أقامت كيانها من البداية على أساس طائفي ومذهبي وعنصري وسلالي، والذي لا ‏يعرفه الكثير من الناس أن عدداً من كبار علماء الزيدية كانوا قد طالبوا قبل عدة سنوات ‏بإخراج مركز دماج من محافظة صعدة باعتبارها محافظه زيدية !!‏

ففي شهر فبراير 2007م، أصدر مجموعة من علماء الزيدية بياناً وقع عليه عدد من علماء ‏الزيدية، وعلى رأسهم العلامة محمد بن محمد المنصور، والعلامة حمود بن عباس المؤيد، ‏والعلامة علي بن محمد الشامي، والعلامة إبراهيم بن محمد الوزير، والعلامة المرتضى بن زيد ‏المحطوري، طرحوا فيه ما قالوا أنها مقترحات لإنهاء ملف صعدة والحرب التي كانت دائرة ‏بين الحوثيين والدولة، وجاء البيان في تسعة عشر بنداً ونقطة، ومنها ما يلي:‏
‏- المطالبة بسحب وتغيير القادة العسكريين المنتمين للتيار السلفي.‏
‏- سحب جميع الخطباء السلفيين.‏
‏- سحب مركز دماج السلفي من المحافظة باعتبارها زيدية، ووجود المركز استفزاز ومحاربة ‏للمذهب الزيدي.‏
‏- منع نشر جميع الكتب السلفية في المناطق الزيدية!!.‏

فتأملوا معي في هذه المطالب والمقترحات التي تحمل نفساً طائفياً مقيتاً وتوجهاً مذهبياً ‏بغيضاً في غاية العصبية والتعصب. يريدون (سحب) وتأملوا كلمة (سحب) التي تكررت في ‏الرسالة كثيرا: سحب القادة العسكريين، الذين لا يرضون عنهم ولم يقفوا معهم، واتهامهم ‏بالانتماء للتيار السلفي.. وهم يقصدون طبعاً الانتماء للمذهب السني ؛ لأنه لا يوجد قادة ‏عسكريون سلفيون، وبالتالي فالقصد هو سحب وإخراج وطرد كل القادة العسكريين والمدنيين ‏الذين ليسوا زيدية ولا يدينون بالولاء والطاعة للحوثيين.‏

إنها ثقافة الإقصاء والإلغاء للآخر والمخالف مذهبيا وفكريا (سحب الخطباء السلفيين)، ‏‏(سحب مركز دماج السلفي)، (منع جميع الكتب السلفية)... وهذا الخطاب الإقصائي لم يأتِ من ‏قادة التمرد الحوثي في صعدة، وإنما جاء على لسان علماء الزيدية في صنعاء، وفي ذلك معانٍ ‏كثيرةٌ ودلالاتٌ خطيرة لا تخفى على لبيب ولا متابع رشيد!!‏

وقد تم تنفيذ البنود المتعلقة بسحب القادة العسكريين، وطرد القادة المدنيين، وعلى رأسهم ‏محافظ المحافظة المعيّن من الدولة طه هاجر، وتعيّن محافظ من قبل الحوثي، تم اختياره ‏بعناية، باعتباره يدين بالولاء والطاعة، بعدها أصبحت صعدة تحت سيطرة الطغمة، ومغلقة ‏على هذه المجاميع المسلحة والحركة المتمردة، ولم يبق إلا مركز دماج شوكة في حلوقهم ‏وغصة في نفوسهم.‏

فكان لا بد من «سحب مركز دماج السلفي من المحافظة، باعتبارها زيدية، ووجود المركز ‏استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي»!! حسب ما جاء في مذكرة وبيان علماء الزيدية بالحرف ‏والنص، فوجود هذا المركز السني يعتبر استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي، وتأملوا جيدا ‏وانظروا مليا في صياغة العبارة (وجود المركز ليس فقط استفزاز وإنما محاربة أيضا)، ‏ولمن؟! ليس للحوثيين فحسب وإنما للمذهب الزيدي!!‏

وأختتم هذه السطور –للمرة الثانية- بقول الشيخ مقبل رحمه الله: «وإني أحمد الله، فغالب ‏وادعة الذين هم بجوار صعدة يدافع عني وعن الدعوة، بعضهم بدافع الدين، وبعضهم بدافع ‏التعصب القبلي، ولولا الله ثم هم لما أبقى لنا أعداء الدعوة، خصوصاً شيعة صعدة، عيناً ولا ‏أثراً».‏

زر الذهاب إلى الأعلى