الجميع متفقون على أن التعليم ضرورة وشرط أساس انطلاق الأمة العربية نحو العالم الأول، وليس هناك قضية أو قطاع يُجمع الناس على أهميته مثل قضية التعليم، وهو في الوقت نفسه محل سخط وانتقاد وتذمر حتى من العاملين والمسئولين في مجال التعليم العام أنفسهم. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا هذا التناقض أو الفجوة بين الاعتراف بأهمية التعليم ومستواه المتدني؟ أي كيف يكون مهماً ولا يلقى الاهتمام الكافي من الإصلاحات الجوهرية والعزيمة الصادقة في تنفيذ ما يجب عمله؟
أنه أمر غريب أن تؤكد الخطط والاستراتيجيات وبرامج الحكومات العربية على الارتقاء بالتعليم وتطوير الموارد البشرية، وأن تخصص مليارات من الريالات لتحقيق هذا الهدف، ومع ذلك ما زال التعليم حاطاً رحاله في محطة واحدة دون أن يلوح في الأفق ما يبشر بالانتقال إلى مرحلة تطويرية متقدمة. بل إنه يتراجع عاماً بعد عام في جودة البيئة المدرسية وقاعة الدراسة ومستلزماتها المادية والمعمارية، وكذلك في جانب المنهجية وأساليب وتقنيات التعليم والتقويم، وبما ينعكس سلباً على العملية التعليمية ومستوى الطلاب والطالبات الفكري والنفسي. لقد أمسى التعليم في وضعه الراهن وبجميع جوانبه المادية والمنهجية لا يتناسب مع متطلبات المرحلة وما يكتنفها من متغيرات كبيرة وسريعة ومستجدات تقنية وسياسية واقتصادية وثقافية. هذه التغيرات الضخمة خلقت عالماً جديداً مبنيا على الإبداع والابتكار وإدارة المعرفة وبناء الخبرة وسرعة التكيف وخوض تجارب جديدة والإعداد للمستقبل. ومن ثم فهي تتطلب أفراداً مبدعين ومفكرين وحلالي مشاكل بتعليم مستمر. لم يعد يقاس التعليم بما يتحصل عليه الطالب والطالبة من معلومات، وما يستطيع حفظه عن ظهر قلب ولا حتى فهمه للمسائل الرياضية والفيزيائية والمعادلات الكيماوية، وإنما رفع قدرة الطالب والطالبة على توظيف هذه المعلومات في فهم ما يدور حوله وتطوير فكره ودفعه نحو المزيد من التعلم وجعله أكثر جسارة في استكشاف العالم من حوله. إن تقنيات الاتصال والمعلوماتية جعلت من السهل الحصول على المعلومة ولم يعد المعلم المصدر الوحيد؛ ما يجعل من المهم إدراك الدور الجديد للمعلم كميسر ومحفز للتعلم وناقل للخبرة والتجربة. المعلم المتميز هو من يجعل طلابه يستشعرون المعلومة ويقتربون منها ويفهمونها وتكون جزءاً من ذواتهم وليس دفعهم بالتهديد والتخويف لحفظ أكبر قدر من المعلومات. هكذا فقط تكون المعلومة مفيدة وممتعة وتبقى مدى الدهر؛ لأن الشعور ينحفر داخل الوجدان ولا يزول كما تزول المعلومة التي حفظت من غير إدراك أهميتها وفهمها في سياق الواقع والفائدة المرجوة منها. ولذا فإن مهمة المعلم العربي - اليوم - هي استكشاف قدرات الطلاب والطالبات وتوجيههم نحو تطوير قدراتهم وإمكاناتهم. وعندما يحقق الطالب ذاته ويعرف ما يستطيعه وما لا يستطيعه، يكون أكثر تحكماً وأوضح رؤية فيما يود تحقيقه فيندفع على بينة من الأمر وبإدراك تام فيما يسعى لتحقيقه.
إن أعظم خطأ حدث في التعليم - في تقديري - هو تكريه الطلاب والطالبات في العلم والتعلم والمدرسة وأنه شر لابد منه. والدليل على ذلك سلوكيات الطلاب بعد الامتحانات النهائية وكيف يمزقون الكتب ويرمونها في مكب النفايات وكأنهم ينتقمون منها! والحقيقة لا أحد يلومهم على هذا التصرف فهم أناس قد أُجبروا على تلقي المعلومات بطريقة تعسفية واستفزازية لا تتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم الكبيرة التي حباهم الله بها. وعندما تكون المعلومة خارج الذات تكون غريبة، وكأنما طلب من الطلاب وضع الكتب فوق رؤوسهم وحملها طوال الفصل الدراسي؛ بل إن الإحساس النفسي الذي يتولد داخلهم وحالة الإحباط في أنهم يقرأون ما لا يعتقدون أنه مفيد أو غير مفهوم أعظم بكثير. هذه الفجوة بين التعليم والتعلم سببها في تقديري المعلم الذي اتخذ من مهنة التدريس وظيفة للعيش، وليس لإحداث تغيير في أفكار وميول وتصرفات الطلاب. ونتيجة لذلك تولدت ثقافة لدى مجتمع الطلبة في أن القصد من التعليم هو الحصول على شهادة تؤهل لدخول الجامعة وحسب. وإذا كان كذلك فلا بأس من الحصول على أعلى درجة بأقل جهد وبشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة. هكذا انطفأت جذوة الدافعية الداخلية نحو التعلم وحب الاستكشاف والرغبة في البحث عن الأفضل. لقد أصبح كل من الطالب والطالبة مبرمَجاً على سلوكيات في قوالب جامدة ليتخرج من التعليم العام، إما حاقداً بنفسية مريضة، أو خجولاً لا يقوى على الحديث والتعبير عن أفكاره. هذه البرمجة للسلوكيات والتعامل الصارم مع الطلاب مرد ذلك إلى عجز المعلم وتدني مستوى معلوماته وثقافته، واعتقاده الخاطئ أن ذلك يمنحه الاحترام والتقدير. وما التطرف والعنف المشين الذي نشهده في مجتمعاتنا العربية إلا بسبب هذا الأسلوب العقيم الذي حول العملية التعليمية برمتها إلى تحدٍ بين المعلم والطالب، واختزلها في السيطرة والإكراه وممارسة السلطة بطريقة فجة؛ فبدلاً من أن ينهض المعلم بطلابه ويرفع من معنوياتهم وثقتهم بنفوسهم كمربٍ وقدوة، نجده يهبط بهم إلى أدنى مستويات التعامل الإنساني وهو عدم احترام ذوات الناس وإنسانيتهم مخالفاً لقول الله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ".
إن العملية التعليمية تحتضر.. وتحتاج إلى تدخل سريع يستأصل من يُسيء إليها، بل إن ذلك يضر بعملية التنمية الوطنية، ويهدد استقرارنا واقتصادنا؛ لأنه كما يكون التعليم يكون المجتمع. ولابد من وضع رؤية جديدة وفلسفة للتعليم مبنية على تطوير قدرات الطلاب والطالبات وتعليمهم كيف يفكرون، وليس فقط كيف يحفظون المعلومات. هذا يستلزم بناء مدارس نموذجية مريحة وممتعة، كما يتطلب إجراءات نظامية صارمة ورشيدة فيما يتعلق باختيار المعلمين ومديري المدارس، مع ضرورة بناء نظام فاعل لتقويم أداء المعلمين يقوم على الإبداع في التدريس والقدرة على تطوير مهارات الطلاب على التفكير النقدي والتعبير الواضح والجسارة في طرح الأفكار، إضافة إلى أهمية تأسيس نظام تدريبي متطور موجه نحو الارتقاء بتفكير وميول وسلوكيات المعلمين، وحفزهم على النظر إلى المستقبل والمساهمة في إعداد جيل قادر على تحمل مسؤولية الحفاظ على المكتسبات الوطنية. وجميع ذلك لا يتأتى لطلابنا وطالباتنا إلا إذا تحولنا من تلقينهم إلى تعليمهم كيف يتعلمون.
- أستاذ الإدارة الحكومية- جامعة الملك سعود- الرياض