أرشيف الرأي

الهجرة الثانية من صعدة!

لقد فعلها الحوثي اذن، ونفذ كل ما يريد، وتخلص من دماج؛ الشوكة التي تقع في طريقة كما ‏قال لي ذات يوم القائد الحوثي أبو علي الحاكم في العام 2011م، حين كنت مع مجموعة من ‏شباب الثورة في زيارة لمملكة صعدة الناشئة آنذاك، دخلنا صعدة ونحن نحلم بدولة مدينة، ‏حلمنا بها في ساحات الثورة، في خيام متلاصقة، ووجوه متعددة، مذاهب مختلفة، كانوا يقولون ‏مثلما نقول وأوهمونا أنهم معنا في أحلامنا التي تحطمت في حرف سفيان، حدود مملكة ‏الحوثي.‏

في يوم من أيام الثورة دخلت إلى أحد الدكاكين في ساحة التغير بصنعاء، قبل بداية غزوة ‏دماج الأولى، التقيت بممثل الحوثي في اللجنة التنظيمية السيد خالد المداني، تبادلنا الكلام عن ‏الثورة وعن المستقبل كنت أتحدث عن المستقبل وهو يتحدث عن الماضي وعن حروب صعدة ‏الست، كان لطيفاُ معي أثناء الحديث، وكان هناك أشخاص بلباس قبلي مخيف يهمسون له ‏بأحاديث وأخبار كنت اجهلها، في نهاية الجلسة طلب رقم هاتفي فأعطيته، وناولني ورقة ‏مكتوب فيها رقمه الشخصي ، وطلب مني زيارته والاتصال له عند احتياجي أي شيء، من ‏الموكد أنه كان يقصد عند احتياجي للمال قدمنا بطلب زيارة صعدة لكن الرد كان مفاجئا لنا ، ‏لقد رحبوا بنا وأعلنوا الأفراح؛ لأن شباب الثورة سوف يزورون شركاءهم، لم أفهم سبب ‏فرحتهم بمجموعة من المراهقين، كان أبو علي الحاكم ينعتهم (با المغازلين) وصلنا صعدة وقد ‏جهزوا لنا برنامجاً ترفيهياً ومعداً من قبلهم وهو ما رفضناه طبعا، وأكدنا أننا في مهمة ثورية ‏لمعرفة ما يدور في دماج.‏

أصبحنا متهمين ومنبوذين بسبب إصرارنا على دخول دماج ، التي كانوا يؤكدون أنها ليست ‏محاصرة، دخلنا دماج مع الوساطة وكان بقية أمل يراودنا أن الحوثي صادق وأن شركاءنا لا ‏يمكن أن يرتكبوا حماقات.‏

الكارثة التي شاهدناها في دماج، والجريمة الإنسانية التي عاشها أهالي دماج، أسقطت كل ‏الأحلام الوردية والوعود الكاذبة التي صرفها لنا الحوثيون.‏

لقد كنا مغفلين عندما قبلنا بالحوثي أن يدنس ساحات الثورة فخرج منها طاهراُ وخرجنا ‏مدنسين ومذنبين وسذج، استطاع أن يتظاهر بالمظلومية والثورية ،ونحن لم نرد أحد (حيا بهم ‏حيا بهم) أشعر بالذنب أني وقفت يوماُ مع الحوثيين ،والآن أحاول التطهر مما لحقني جراء ‏تلكم المواقف.‏

أتذكر ذلك اليوم اللعين بكل تفاصيله، دخلت دماج ظهراً لكي أكون شاهد على قرية تموت ‏جوعاً أكثر من موتها بالقصف والسلاح، الرابعة عصرا وصلت إلى منزل فارس مناع ‏‏(الكمبارس) الذي أجاد الدور، كانت آلة التصوير في جيبي، وكانت الفرحة بادية على ملامح ‏وجهي وكأني أكملت المعركة منتصراً، فجأة دخل مسلحان يتبعان الحوثي يبحثون عن مختار ‏الرحبي، وأنا مقابل للمحافظ أشرح له قصص شاهدتها في دماج طلبوا مني آلة التصوير، أو ‏سيتم التعامل معي بالوجه الثاني، لم أكن أعرف وجههم الثاني حتي تلكم اللحظة، لكن وجهه ‏قبيح ومزري، سلمت ما بحوزتي من وثائق تدل علي الكارثة وفارس مناع يواصل في تناول ‏القات بشرهة وبطعم عجيب وكأني لست في حضرته وتحت سقف منزلة.‏

غادرنا صعدة بعد رحلة يمكن وصفها برحلة الموت وصلنا صنعاء، بعد عناء وتدخلات ‏وتوسلات لهم أننا سنكتم ما شاهدناه وسنقول أن مدينة صعدة نموذج للدولة المدنية التي خرجنا ‏نبحث عنها في ساحات اليمن. وصلنا الساحة ومن خلال المنصة أعلنا عن مؤتمر صحفي ‏سيعقد لإظهار الحقيقة بعد أن نزلنا من منصة الثورة، وصلنا تهديد بحرقنا أحياء اذا تكلمنا ‏بكلمة، لكن الإحساس بالأمن كان عامل نفسي لنا جميعا للحديث وفضح المستور، في المؤتمر ‏تحدثنا عن كل شيء، أتذكر السيدة أمل الباشا وهي تحاول قلب الحقائق وكانت تتحدث بلغة ‏التخوين لنا، لكننا في الأخير نقلنا الكارثة وعرف الناس ما حصل في دماج من جرائم إنسانية.‏

ليلة المؤتمر تواصلت مع محمد المقالح الاشتراكي الحوثي قال لي لن تستطيع ان تتحدث ‏بالحقيقة، كان ردي: ستعرف صباحاً أني أحمل الحقيقة، ولن أحيد عنها. أرسلت برسالة التهديد ‏للزميلة سامية الأغبري التي ساعدتنا كثيرا ،فكان ردها عامل نفسي قوي أمام الانهزام النفسي ‏والخوف الذي دخل أعماقنا من مصير مخيف ، خصوصا أننا عرفنا أنهم أسهل شيء ‏يستطيعون فعلة هو إيذاء الاخرين.‏

الهجرة الأولي من صعدة
كانت الهجرة الأولي من صعدة في العام 2007وكان المهاجرون من يهود اليمن الذين عاشوا ‏في صعدة وفي اليمن عموما من قبل 2000عام وكان من قام بتهجيرهم هي جماعة الحوثي ‏بتهمة إشاعة الفاحشة والمنكر والانحلال الاخلاق وتم اعطائهم مهلة عشر أيام لمغادرة صعدة ‏تم نقل (7) اسر يهودية تضم 45 فرداً بطائرات إلى العاصمة صنعاء ووفرت لهم الدولة ‏مساكن ومرتبات. لا أتذكر أن أحد وقف في صف يهود اليمن حتي منظمات المجتمع المدني ‏كانت تخجل أن تقف مع يهودي يمني تعرض للظلم من مسلم يمني. كان باستطاعة من تم ‏تهجيرهم أن يغادروا إلى تل أبيب وسط دعوات لهم من إسرائيل لكنهم تمسكوا بوطنهم وطُلب ‏من إسرائيل عدم التدخل في شؤونهم الداخلية ، موقفهم هذا كان مخجل لنا وعار على الأحزاب ‏التي وقفت مع الحوثي نكاية بنظام علي عبدالله صالح.‏

الهجرة الثانية من صعدة
الهجرة الثانية من صعدة في بداية العام 2014م والمهجرون ليسوا يهود ولا أمريكيين ولا ‏غزاة احتلوا صعدة، بل مسلمين يمنيين ينتمون لمدينة صعدة وسكنوها قبل أن يولد الزعيم ‏المراهق، التهمة التي تم تهجيرهم بسببها أنهم تكفيريون وهي تهمة تتناسب مع الموضة ‏الجديدة. خمسة عشر ألف نسمة سيتم تهجيرهم بينهم عشرة آلاف طالب علم ليسوا مقاتلين، بل ‏فرض عليهم الحوثي الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم سيخرجون في ظل دولة جديدة ‏ونظام جديد وثورة أطاحت بالنظام السابق، الذي كان لا يحسن التعامل مع أبناء الشعب ‏ويحرمه من الثروة والمال، لكن الجديدة حرمتهم من المسكن والأمان، تحت وطأة حرب ‏شرسة خاضتها مليشيات مسلحة شيعية استولت على مدينة صعدة بقوة السلاح.‏

ماذا سنقول للأجيال القادمة عن هذه الجريمة التي لم يشهد لها التاريخ منذ 2000عام، علينا ‏أن نجهز التبريرات من الآن، كيف سيكتب التاريخ عن الحكومة و الأحزاب وعن المنظمات ‏وعن 25مليون يمني عايشوا جريمة تهجير قسري لمجموعة من طلاب العلم.‏

لم يخسر السلفيون المعركة بل ربحوها واستطاعوا أن يجعلوا من دماج رمزاً للصمود ‏والنضال والدفاع عن النفس، في ظل حصار غاشم، وقصف شديد وتواطؤ مفضوح عليهم. لقد ‏صمدوا ثلاثة أشهر وهم يعيشون القصف بالسلاح الثقيل والخفيف وقناصة يخطفون روح كل ‏شيء يتحرك على الأرض، لقد عاشوا في ملاجئ وكأنهم في حرب تحريرية لقد ربحوا وخسر ‏الجميع. دماج حكاية ستحكيها الأيام وسيرويها المؤرخون وسيكتب عنها الكتاب وسينشد لها ‏المنشدون وسيبكيها الأحرار.‏

لحظات الهجرة من أرض تربوا فيها وعاشوا فيها تفاصيل حياتهم اليومية لن تنسي ‏سيكتبونها في صفحات كتبهم وفي عبراتهم وسيؤلفون من دموعهم الكتب التي تروي تفاصيل ‏الجريمة ونكتفي نحن بخيباتنا وتخلينا عنهم. أربعة أيام هي المهلة التي أعطيت لهم للرحيل ‏عن قرية ستكون شاهدة على جريمة هزت الإنسانية ستكون دماج لعنة تصيب كل من يعيش ‏فيها بعد أن غادرها أهلها الاصليون. دماج ستضل لعنة تلاحق من دمرها وقتل خيرة أبنائها ‏وسيظل العار صفة متلازمة مع من حاصرها ومنع عنها الغذاء والدواء.‏

دماج دخلت التاريخ من باب المظلومية ولن تخرج منه ولو حاول الحوثي جلب مستوطنين ‏لكن سيستطيع حين ينجح اليهود بإقناع العرب والمسلمين أنهم لم يحتلوا فلسطين ولم يهودوا ‏القدس. يبدو أن على الدولة أن تجعل من دماج مزار لكل من يريد أن يتعرف على تاريخ ‏جماعة الحوثي؟

وعلى الحوثي أن يجعل من دماج منطقة خالية من السكان وأن لا يغير من ملامحها لتظل ‏شاهدة أن الآباء والأجداد كانوا متعايشين مع من يختلفون معه فكريا ومذهبيا لكن هذا حلم لن ‏يتحقق كحلم الدولة المدنية الذي لم يتحقق حتي اليوم. ماذا اكتب وكيف أعبر عن جريمة ‏تطهير عرقي وجريمة تهجير قسري كلما حاولت التفكير بما يتنسب مع قبح الجريمة تتبعثر ‏الكلمات وتختفي العبارات عن أناملي الجريحة. التاريخ لن يرحم أحد ولن يسامح أحد كان سببا ‏في تهجير أهالي دماج. المصادفة جعلت من تاريخ مولد النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ‏موعدا لبدء الهجرة الجماعية من دماج إلى الحديدة من قاموا بالتهجير يحتفلون وسط العاصمة ‏صنعاء ليس بالمولد الشريف، لكنهم يحتفلون بإزالة الشوكة التي تقف أمام مشروعهم التوسعي ‏الغير مشروع لقد صدق أبو علي الحاكم حين قال: إن دماج شوكة لابد من إزالتها؟ أهنئ ‏وأحتفل بإزالة الشوكة يا أبو علي الحاكم انت وسيدك وجحافلك وميلشياتك. تمددوا واحكموا ‏وافرحوا واعرضوا قواتكم في احتفالكم الدينية لكن ستضل دماج حكاية وقضية تحكي عن ‏فصول من المذهبية والطائفية التي تتمتعون بها. وداعا دماج.‏

زر الذهاب إلى الأعلى