حضرت صباح يوم السبت الماضي ندوة بعنوان "جامعة صنعاء إلى أين؟" نظمتها منظمة بيسمنت. كان المتحدث الرئيسي فيها الاستاذ الدكتور ياسين الشيباني أستاذ القانون الدولي بجامعة صنعاء. وفي محاضرته الثرية والعميقة ، بيّنَ الأسباب المتنوعة التي جعلت من جامعة صنعاء مؤسسة على ماهي عليه الآن من ضعف في الاداء والقدرة ، ونقص في الموارد والتجهيز، وغياب في الهدف والرؤية ، وضعف في التحصيل العلمي والاكاديمي ، وبالنتيجة حصيلة رثة من المخرجات يتكبد المجتمع اليمني إثرها خسائر فادحة. وهو ما حفزني ان أتناول حال التعليم العالي في اليمن ومستقبله القريب استنادا إلى نظرية شمولية غير متعالية تؤكد إلى أن "البيئة الطبيعية" (Ecosystem) المحيطة بالتعليم العاليهيالمقرر الرئيسي لواقعه ومستقبله. سألجأ إلى الاستعانة بالقياس كوسيلة أُقَرّبُ فيه للقارئ هذه المقاربة قبل أن أدخل في مناقشة حال التعليم الجامعي في اليمن حاضرا ومستقبلا .
دعونا نفترض أن قرارا أُتخِذ لزراعة شجرة تفاح لكي تعطي ثمرا طيبا ينتفع منه المجتمع. يا ترى ما الذي سيحدد نمو هذه الشجرة ، كمية ونوعية ثمرها ، وقدرتها على البقاء وتأثيرها في بيئتها. هناك لاشك معطيات وشروط موضوعية وذاتية لنجاح هذه المشروع. الشروط الموضوعية تتلخص في طبيعة الطقس والتربة التي ستزرع فيها هذه الشجرة. فاذا كان الطقس قارسا ، والعناصر الغذائية في التربة التي ستزرع فيها شجرة التفاح معدومة أو ناقصة فإنها قد تموت أو تضمر وتصفر أوراقها ، أوتقدم ثمرا شحيحا مُرّا وغير طيبا. بل أن ثمرها ، بافتراض أنها جات طيبة وهو الأمر المستبعد بصورة عامة، فإنها لن تلقى رواجا في مجتمع لا يحبذها ويفضل عليها شجرة القات مثلا ولا يرى فيها ما يلبي حاجاته وتفضيلاته ، والنتيجة هي أن تظل محصورة أو منبوذة. وهنا عليّ أن أوضح أن التفضيلات لا تتشكل في الغالب طبقا لأسباب فسيولوجية أو ذاتية محضة ، بل تنشأ كاستجابة لطبيعة العلاقات الاجتماعية والتحيز الثقافي. فهذان العاملان هما أكبر مقرر ومصوغ للتفضيل والسلوك الفردي والجمعي ، وهي التي تمدنا بمفاهيمنا وسعينا حول ونحو المرغوب والمنبوذ ، الجميل والمقزز ، العادي والغريب ، إذ لا مفر من هذا النفوذ الاجتماعي الذي وجب في حالتنا تغييره.
وإذا ما أضيف إلى ذلك أن المزارع الذي سيرعى هذه الشجرة ، جاهل برعايتها وغير مقدر لثمرها ، والشجرة في ذاتها مصابة بعطب أو مرض فذلك يزيد من سوء حالها وأثرها المدمر على بيئتها. فهي ستنقل أمراضا وأوبئة إلى البيئة المحيطة بها لم تكن تعهدها هذه البيئة. ولا شك أن نوعية المزارع وأداءه وكفاءته قد حدده سلفا طبيعة وغاية ورؤية ونوايا صاحب القرار في زراعة هذه الشجرة.
الواقع المُرّ ، المحبط والمأساوي للتعليم العالي في اليمن ومخرجاته الرثة هو محصلة حتمية لنمط الحياة السائد في اليمن الذي ُولد فيه التعليم وترعرع. ونمط الحياة هذا إنما هو تركيبة حية من التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية تحكمهما وتديرهما علاقة تساندية وديالكتيكية عروا. ولا أحد هنا يستطيع ان يجادل في القولأن نمط الحياة السائد في اليمن إنما هو نمط حياة تقليدي متكلس شديد المحافظة والرجعية تشكل على امتداد قرون طويلة من الركود والانطواء والتخلف. وأولى مؤسسات التعليم العالي في اليمن سواء جامعة صنعاء (1970) أو جامعة عدن (1975) قد تشكلت في أحضان ذلك النمط بتحيزاته الثقافية وعلاقاته الاجتماعية ، بامتداداته الثقافية والمعرفية ، السياسية والامنية ، الاقتصادية والاجتماعية ،وهي العناصر الحاكمة والمحددة لنشأة وتطور ووظيفة الجامعات اليمنية التي حددت قسماتها وملامحها ، أدوراها ووظائفها على امتداد اربعة عقود ونيف مضت. على سبيل التدليل ، لا التوصيف ، كان تعيين رؤساء وعمداء وحتى أساتذة جامعة عدن ومنهاجها التعليمية يتقرر طبقا لايدلوجية الحزب الاشتراكي الحاكم آنذاك فيما كان يطلق عليه بجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية ، فيما كان الأمن السياسي في صنعاء هو الذي يمنح صك الدخول والتعيين في جامعة صنعاء ، بما في ذلك تعيين إدارة الجامعة الاكاديمي والاداري. وكان "شهادة حسن السيرة والسلوك" أقوى وأنجع من أية شهادة علمية يحوزها المتقدم لأي موقع اكاديمي أو منصب اداري يصبو إليه.كان صانع القرار الرسمي وغير الرسمي يعبر عن ذلك النمط ويكرس مصالحه ويعيد إنتاجه على مختلف المستويات ، بما في ذلك عبر الهويات والأيدولوجيات الثقافية والمعرفية التي يشكل التعليم العالي رؤوس حرابها. فبدلا من أن تقوم الجامعات اليمنية باستبدال العقل الفارع بعقل نهضوي منفتح ، قامت بتكريس نمط الحياة التقليدي وتعميق التخلف.
عملت شبكة المصالح التقليدية المهيمنة والأيدولوجيات المساندة لها الممتدة راسيا وأفقيا على مناهضة التعليم العالي النوعي والمتقدم وكبلته بكافة الأغلال الايدلوجية والحزبية ، الأمنية والسياسية ، الثقافية والمعرفية ، وحاربت كافة النزعات والدعوات لاستقلالية العلم ومؤسساته. واستخدمت لذلك كل الوسائل والسبل عبر شبكة الولاءات والزبونيات التي صكتها ودمغتها في مختلف المؤسسات بما فيها مؤسسات التعليم العالي وفي مقدمتها الجامعات. فمعظم رؤساء الجامعات وأمناءها ونوابهم وعمداء الكليات ورؤساء الاقسام والمديرين التنفيذيين والقائمة ممتدة يتم تعيينهم طبقا لدرجة الولاء للنظام السياسي وقربهم من شخوصه على مختلف السلطات والمستويات. وعلاقات الزبونية تلك هي علاقات هيمنة واحتكار واستعباد تقوم على الولاء والطاعة (لولي النعمة) الذي يهب ويمنح ، يجرد ويحرم هذه "النعمة" طبقا لميوله وغاياته. وما على هؤلاء إلا السمع والطاعة وتنفيذ أرادة "الحاكم بأمره". كان هؤلاء الولاة على مؤسسات التعليم العالي المعينون بأمر الحاكم ما يبالغون في التعبير عن ولاءهم له لكسب المزيد من عطفه وثقته بالإيغال في السفه وتدمير أسس التعليم العالي وتشويه مبادئه بوسائل عدة . ذات مرة قام علي سبيل المثال - أحد عمداء كلية الآداب بجامعة صنعاء- بمحاولة أغلاق كليتي الفلسفة وعلم النفس بحجة أن علم الفلسفة هو علم إلحادي ، وعلم النفسيتدخل في النفس البشرية التي هي شأن آلهي. ليس ذلك سوى نموذج بسيط لقصص حال التعليم العالي في اليمن. ناهيك عن حال المنهج التعليمي الناقص والمعوج، والتراتب الاكاديمي المنقوص والمعيب ، والوضع المالي والاداري المتردي، والاستاذ الجامعي المغلوب على أمره وتفشي الفساد وتردي الاخلاق والقيم التي تشكل الصورة السائدة للتعليم الجامعي في الوقت الراهن.
لا يوجد ما يشير - بعد ما أطلق عليه "ثورة الشباب"- إلى تحسن في وضع التعليم العالي ، بل أن الصورة ازدادت قتامة ، فبدلا من القسمة على واحد ، صارت القسمة على عشرة ، ويالها من عشرة؟؟ (لا أعني بذلك المحاصصة الحزبية في حكومة الوفاق ، بلما هو أبعد من ذلك ).
ولا أمل لأمة بالنجاة والنهضة والتفوق والعيش الكريم إلابتعليم عالي حديث وهادف ، سليم ومعافي ، راسخ وصلب ، حر ومستقل ، فالتعليم يمثل عقل الأمة ، مثلما يمثل القضاء ضميرها. والأمل يظل قلبه ينبض بقوة بعد التوقيع على وثيقة الحوار الوطني الشامل التي تؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة ، يتحرر فيها التعليم بشكل عاموالتعليم العالي بشكل خاص من هيمنة كافة السلطات القهرية للمجتمع بما فيها السياسية والأمنية، الحزبية والدينية. وعلى صانع القرار السياسي أن يولي رعاية جليلة واهتماما متفردا بمؤسسات التعليم العالي ومبادئه. ومن دون مؤشرات إيجابية ، سريعة وملحوظ في تحسن وضع التعليم العالي ، "أقرأوا على مشروع الدولة اليمنية المدنية الحديثة "السلام".