أرشيف الرأي

عندما يُغيب حكماء الأمة

في اليمن وسواها من بلدان الربيع العربي والعراق يجمعها كلها حالات متشابهة من تدهور ‏أمني غير مسبوق متزامنا من حدة الاستقطاب المذهبي بحيث تم تفكيك بنية تلك المجتمعات ‏فزرعت الفتن وزادت من تعقيد المشهد السياسي في تلك البلدان والتي تشهد تحولات سياسية ‏وديمقراطية لا زالت بعضها تعاني شراسة مقاومة قوى الثورة المضادة المناهضة لعملية ‏التغيير أو فرض قوى متشددة نفسها في المشهد السياسي في كل تلك البلدان..‏

‏ وفي رؤية بانورامية لخارطة الربيع العربي وكذا العراق يلاحظ المراقب والمطلع وكل من ‏يتابع غزارة الإعلام المتصارع فيما بينه مدى خطورة الأحداث الجارية فيها حيث تعاني ‏نزاعات واغلبها تكون الدولة نفسها طرفا في ذلك النزاع تحت مسميات شتي منها محاربة ‏الإرهاب ونحو ذلك، واليمن أحدى تلك البؤر المتوترة والتي ابتليت بساسة انتهت صلاحياتهم ‏وشرعيتهم عندما يرون اليمن يتمزق بهدوء وفي حالة موت سريري لغياب الدولة التي لم ‏يؤسسوها بعد ان استفردوا بالسلطة ونجحوا في تفريق أبناء الأمة فتفرقت أيادي سباء بفعل ‏أنانية ونرجسية ساسة اليمن والذين يحرصون على تماسك أحزابهم ونفوذهم أكثر من ‏حرصهم على وحدة الوطن، وكذا على قيادات تلك الأحزاب المؤبدة حيت تمجد زعمائها فهم ‏أهم من الحزب نفسه في حين الحزب يفوق في الاهتمام عن شئون الوطن فتماسك الحزب من ‏أولوياتهم أما اليمن فلها رب يحميها،..‏

وفي خضم هذه التداخلات وحدة الاستقطاب وعقدة (إخوان فوبيا) أو (عقدة المذهب)، في ‏اليمن وسواها لن تثمر سوى مزيدا من التدهور، الإشكال الآخر هو الاستقطاب المذهبي الحاد ‏الذي يعتبر ثقافة دخيلة على اليمن وبعض بلدان الربيع العربي، حيث يتقاتل اليمنيون وهم من ‏ملة واحدة تجرهم أحقاد عقائدية تاريخية غير مبررة فتناسوا بأن القاتل والمقتول في النار وأنهم ‏فقط ينفذوا أجندات سياسية خارجية، وليس هذا فقط بل ومن يفتي للتحريض على استعداء ‏الآخر، وفي هذه الأجواء المسمومة اليمنيون بحاجة غ إلى معجزة رغم أن زمن المعجزات في ‏الأساطير ولا يعولون حتى بنزول نبي عليهم في هذه الأيام السوداء فلن يحرك ساكنا، ليس ‏ليقيننا بأن عصر ألنبوة حتما انتهى بمجئ رسول الأمة و الذي قال عنه الكاتب الساخر ‏‏(برناردشو) عن ما أحوج العالم إلى محمد ليحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجان قهوة ".‏

‏ ومن هنا فأني أرى بأن حل مشاكل اليمن بالنسبة لأي حكيم عاقل في اليمن سيحلها خلال ‏تدخين سيجارة، وهو مطالبة هؤلاء المتنفذون المهووسون بالسلطة أن يلتزم داره، وكفى وهم ‏بضع أشخاص يعيثون بمصير امة فقط من اجل أحلام السلطة والعودة للنفوذ، فهؤلاء لا ‏يحترمون رجال الفكر والعلماء المتنورين وقد اجمع المختلفون على إقصاء أصحاب الفكر ‏والثقافة وعلماء الأمة من حوارهم العقيم فهناك علماء وحكماء وعقلاء ووجهاء يجمع عليهم ‏الكثيرون لم يغيبوا عن معاناة الأمة بل يعايشونها والأصح لقد غِيْبُوا، في اليمن التي يزايد ‏البعض عن خوفهم من العلمانية يمارسونها في سلوكهم أكثر من الغرب نفسه لأنه من أخطاء ‏بعض علماء الدين العلماء هو امتهان السياسة، ومن هنا يتضائل حضورهم ونفوذهم بينما لا ‏تخلو اليمن من بعض المتنورين ممن يسمون برجال الدين أو غيرهم يمقتون السياسة ولهم ‏مريدهم والأحرى من الساسة ان يرجعون لهم في مثل هذه الظروف حتى ارقي الأمم يتباركون ‏برجال الكنسية ابتداء من ساسة البيت الأبيض حتى آخر علمانية في هذه المعمورة.‏

ويفترض من الدولة اليمنية في الماضي والحاضر أن تشجع على تشكيل هيئة تجمع كل ‏علماء اليمن بكل خلفياتهم المذهبية والمناطقية وتعتبرهم مرجعية، لا أن تشجع على تفريخ ‏أحزاب ونشؤ كيانات سياسية مسخ تفرق الأمة أكثر من ان تجمعها،و لماذا يدعون أنهم ‏يمارسون الديمقراطية في لملمة أطياف اللون السياسي ولا يمارسونها في دور جماعي لرجال ‏الدين ومن كافة المذاهب ليخرجون برؤى توافقية ومن نتائج ذلك بداهة سيتأثر مريديهم من ‏الرأي العام وهذه الإشكالية مغيبة ليس في اليمن بل وفي كل البلدان العربية التي تعصف بها ‏الفتن وتتفاقم أزماتهم..‏

منذ أن تقلد الرعاع مقادير الحكم في يمن الحكمة غابت الحكمة أو غُيُبتّ، لأني أؤمن بأنه لا ‏يفلح قوم ولو أمرهم العسكر، أما في اليمن السعيد فقد تحالف العسكر مع القبيلة وعاثوا فسادا ‏لثلث قرن مضى ليولد نظام مسخ، وفي الجنوب ارتهن لمراهقي السياسة من القبائل الماركسية ‏التي تناحرت فيما بينها في أعظم مجزرة شهدها اليمن في تاريخه الحديث، وهو الحال نفسه ‏في الأنظمة العربية التي أطاحت فيها ثورات الربيع العربي بأصنام غير مأسوف عليها، ناهيك ‏عن سيطرة الحزب القائد الذي يقوده الزعيم الضرورة، فلا ديمقراطية في أنظمتهم ولا حتى ‏داخل أحزابهم، وإلا فالطبيعي عندما يخسر حزب السلطة يتنحى ويعتزل السياسة في ‏المجتمعات الديمقراطية بينما في اليمن يظل يمارس قيادة الحزب ويمارس نشاطه التنظيمي ‏كأنه دولة داخل دولة ويشاغب ويثير المتاعب (للأيدي الأمينة) ويقوم بدور المعارض رغم ان ‏أكثر من نصف السلطة في يده ، وكأن هذا الحزب قد صنع المعجزات وانتشل اليمن من حالة ‏الفقر ونشر العدل بعد ان سادها الظلم، والحال عكس ذلك طبعا فلا اليمن كانت في 2011 في ‏رغد من العيش ولم تكن تنافس سويسرا في الامن والرخاء، وكأنه لازال رئيس دولة، لقد ‏تنوعت مصائب العرب والهم واحد ابتداء من بغداد الرشيد مرورا بالشام المباركة ومصر ‏الكنانة وليبيا وغيرها، اللافت أن طبائع أهل اليمن التي امتزج فيها الطيبة بالقبلية بالجهل ‏بالعاطفة والعصبية التي حذر منها علامة الاجتماع ابن خلدون والتي بتفاقهما تهلك الأمم ‏وتنهار الممالك والحضارات التي تشب وتشيخ ويحكمها في أواخر مراحلها أراذل الناس، لذا ‏لا نستغرب بأن قطاعات من الشعب لازالت تحن لجلادها وكأنهم كانوا يعيشون في فردوس ‏ورغد من العيش وأمان ومنافسة سويسرا في تفاصيل حياتنا السياسية ..‏

النخب المثقفة الواعية مغيبة بالمطلق في يمن الحكمة أما من يتحاور منذ تسعة أشهر عجاف ‏مجرد ساسة ينطلقون بلسان حال أحزابهم التي عبث باليمن ونادرا ما يتواجد العناصر ‏العقلانية، فلا ينطلق عنان الإبداع والبناء لأي امة إلا بحضور ملفت لمفكريها وعلمائها ‏وحكمائها وليس بالضرورة ان يتقلدون المناصب القيادية فذلك ضربا من الخيال فقط في ‏المدينة الفاضلة للفارابي وجمهورية أفلاطون، ولكن امم الغرب والشرق التي بنت نهضتها ‏تعول على عناصرها الكفؤه في السياسة وكل مفاصل الدولة رجلا كان أو امرأة، وفي شتى ‏المجالات وتجزل لهم العطاء بينما هذه الفئة مهمشة في اليمن وأخواتها فأستاذ المدرسة في ‏اليابان يعامل معنويا وماديا كقيادي في الدولة وأفضل العناصر هي من تمتهن التعليم إما أستاذ ‏الجامعة يتقاضى مرتب وزير وهو الأمر نفسه في أمم الشرق ابتداء من ماليزيا التي حولها ‏محاذير محمد من جزر المستنقعات إلى مصاف الدول الصناعية وفي غضون عقدين من الزمن ‏تضاعف دخل المواطن الماليزي نحو ثلاثة أضعاف والحال نفسه في علمانية اوردغان( ‏الاخوانجي) الذي في خلال عشر سنوات تضاعف دخل المواطن التركي ثلاثة أضعاف، فلا ‏يهم المواطن البسيط من يحكم وكيف يحكم وشكل النظام والدولة المهم ان يوفر له الأمن ‏والأمان وحفظ كرام المواطن ومصدر رزقه وحياة كريمة يسودها الوئام والمساواة والعدل الذي ‏هو أساس الحكم، فقد قيل للرئيس الصيني الراحل (زهاو بنغ) وهو خليفة الزعيم الصيني ‏الشهير(ماو تسي تونغ) صاحب الكرزما المعروفة والشعبية الذائعة الصيت سؤال (زها بنغ) ‏عندما بداء ببعض إصلاحات اجتماعية واقتصادية انه قد يخرج عن تعاليم الرئيس (ماوتسي ‏تونغ) فأجابهم (لا يهمني أن تكون القطة سوداء أو بيضاء المهم أن تأكل الفار)، بينما في ‏جمهوريات الربيع العربي وسواها لم تأكل القطة الفار بل أكلت شعوبها.!‏

زر الذهاب إلى الأعلى