إذا كان هناك ثمة مدرسة متكاملة في السياسة يمكن أن نلخصها في شخص واحد فلن يكون برأيي سوى الرئيس الأسبق علي ناصر محمد. هذا السياسي اليمني هو الوحيد الذي يدهشني بمنطقه وهدوئه وقدرته على النفاذ إلى الواقع الواقع الذي فارقه منذ أزيد من عقدين ؛ وخرج من دائرة نخبته الحاكمة قبل خروجه من البلد بعدة سنوات.
تحدث الرجل أكثر من مرة قبل مؤتمر الحوار ؛ غير أن أحداً ما لم يسمعه ، أو لم يكونوا مؤهلين كلهم لإدراك مغزى تحذيراته وتحليلاته الواقعية العميقة.
واليوم يعود مرة أخرى للحديث ، لعل وعسى يستفيد منه المتعاطون بشكل مباشر مع الشأن العام في اليمن من شماله إلى جنوبه ؛ ومن نخبته السياسية إلى أحزابه ومكوناته وتياراته.
" انتقلوا بالحوار من الطيرمانة إلى الطابق الأرضي "
جملة معبرة وذكية قرأتها أمس في مقابلة صحفية للرئيس علي ناصر محمد ؛ الرجل غمز ؛ وهو السياسي المحنك ؛ من حوار موفمبيك كيف أن مكوناته تتحاور في الفندق وتخوض حروبا في صعده وأرحب والجوف. والحقيقة أن هذا الانفصام بين حوار الصالونات المكيفة ، والواقع على الأرض لا يقتصر على هذا التناقض الفج بين لوحة الحوثيين والسلفيين في موفمبيك ، وحروبهم واقتتالاتهم على أرض الواقع ، بل يشمل التناقض الكلي بين اللوحة الصالونية المكيفة للحوار في موفمبيك ؛ والواقع المتفجر بالحروب والصراعات والاختلالات الذي يمتد تلى كل الجغرافيا اليمنية.
" إذا لم تشبه مخرجات الحوار صلابة الأرض التي يُراد تطبيقها عليها وإذا لم تكن معبرة عن هموم الناس وقضاياهم وملامسة للحلول الحقيقية لهم فلا يمكن أن تتصور تطبيقها إلا في رؤوس من أخرجوها ". هكذا يتحدث الكبار مثل الرئيس علي ناصر محمد. وهكذا ينبغي أن تمارس السياسة ويدار الحوار ؛ لا أن يصبحا ضداً على الواقع ومصالح الناس. وقد قيل كلام كثير في ضرورة التهيئة على أرض الواقع على مستوى اليمن ككل ، وعلى مستوى الجنوب بشكل خاص ؛ وبعضهم حدد خارطة التهيئة بعشرين نقطة ، وآخرون بإحدى عشر ؛ غير أن المعنى واحد ؛ وهو أن أي قضية معقدة ومتراكمة الأخطاء كالقضية الجنوبية خصوصا ؛ واليمنية عموماً ؛ تحتاج إلى خارطة طريق تهيأ المزاج الشعبي للحلول النهائية النظرية في شكل الدولة والدستور وغيرها من مفردات التوافق النهائي بين جميع المكونات.
وبتعبير الحكيم علي ناصر محمد فإن أي حلول لا تعبر عن الواقع وهموم الناس فإنها : "تعني الفرض بالقوة وعندئذ سنكون أمام مشهد متكرر لكل السياسات التي طبقت من قبل وأوصلتنا إلى هذه الحالة المأساوية, هذه الأساليب التي تصادر إرادة الشعب لا يمكن الحديث معها عن ضمانات دولية لأن الضمانات المحلية والوطنية الفاقدة لشرعيتها والمنتهية صلاحيتها لا يمكن إلا أن تضمن بقاءها ككروت في حروب متنقلة لا كأرقام في أرض مستقرة, ونأمل أن تعيد مختلف المكونات والقوى حساباتها على أسس وثيقة الصلة بحاجات الناس ومتطلبات المرحلة لا بحاجاتهم هم ومتطلبات الانتماءات الحزبية والدينية والجهوية. ".
فليس من المعقول أن يتم الفصل بين الحوار والواقع الذي يتم التحاور عنه ، وإلا أصبح الحوار نوعاً من التنظير و" حل الكلمات المتقاطعة " الذي لا يأبه بالواقع الحي على الأرض ؛ وكم قد أكتوى شعبنا في الشمال والجنوب بالتنظيرات والتوافقات النخبوية الفوقية التي لا تنعكس على حياة الناس ومعيشتهم ولا تراعي مصالحهم قدر مراعاتها لمصالح النخب السياسية وأولوياتها.
ومن هنا يرى علي ناصر محمد أن نجاح الرئيس عبد ربه منصور هادي يتحدد هنا بالضبط : " ونعتقد أن قدرة الرئيس على تحقيق التغيير الذي ينعكس على الشعب لا على النخب هو من سيحدد نجاحه من عدمه."
***
ماذا يقول الرئيس الحكيم المحنك علي ناصر عن رفيقه القديم علي سالم البيض ؛ وكيف يقيم أداءه على القضية الجنوبية وآفاقها ؟؟
يقول علي ناصر " سبق ان تبنى الأخ علي سالم البيض قيادة مشروع الانفصال أو فك الارتباط فهو مشروعه منذ حرب 1994 وفشل في حينه بالرغم من الدعم الإقليمي المعروف ثم غاب عن المشهد السياسي ليعود حاملاً ذات المشروع بعد ثلاث سنوات من انطلاقة الحراك الجنوبي !!!
" ويضيف معلقاً على دعوات الانحراف بالحراك الجنوبي نحو استخدام العنف قائلاً : " أما الدعوة إلى الكفاح المسلح فنقولها للجميع بأننا لا نتفق معها جملة وتفصيلاً إلا في حالة الدفاع عن النفس وسوف تكون قاصمة ظهر الحراك لو بات خياره الوحيد ومجدداً نقول: قوة الحراك في وحدته ونضاله السلمي."
وهذا عين الصواب. فقوة الحراك الجنوبي في نضاله السلمي. أما علي سالم البيض فقد استعجل حين كان مطلوباً منه التريث ، وهرب حين كان مطلوباً منه الصمود والقتال ، وصمت حين كان مطلوباً منه الكلام ، وتحدث حين كان مطلوباً منه الصمت والتواري ليترك الحراك الجنوبي ينجز أهدافه ، وتهور حين كان مطلوبا منه الاعتدال ، وتأقلم في طهران وبيروت حين كان مطلوبا منه العودة إلى الساحة الجنوبية لقيادتها وتوحيدها.