نجاح الثورة التونسية في إنجاز الدستور الجديد بمشاركة كل أطياف المشهد السياسي، يعني نجاح المشترك الوطني الواسع الذي يضم التيار السياسي الإسلامي ممثلاً هناك بحركة النهضة. وهو نموذج مغاير ونقيض للمسار الذي ذهبت فيه الثورة المصرية المجهضة، حيث عاد النظام القديم بقوة أكبر بعد أن خلس جلده المنتهية صلاحيته محمد حسني مبارك ؛ وعاد بأركانه الثلاثة : الهيمنة العسكرية ؛ والقبضة المخابراتية الأمنية ؛ ورجال الأعمال الفاسدين وعلى رأسهم حسين سالم مهندس صفقة الغاز الشهيرة مع إسرائيل.
أجهضت الثورة المصرية بتواطؤ النخب الثقافية والتيارات والأحزاب اليسارية التي دفعتها مخاوفها من هيمنة « الاخوان» إلى التحالف مع الثورة المضادة ؛ على العكس منها كان المشهد التونسي الذي صمد أمام زوبعة الرياح المضادة القادمة من المنطقة العربية، حيث تشكل حلف واسع النطاق لإسقاط ثورات الربيع العربي ؛ وتحويل المرحلة الانتقالية إلى مرحلة انتقامية ؛ وهي الثورة المضادة المدعومة إقليمياً ؛ والتي اتخذت من ستار « الإخوان » غطاءً لها ، وهدفها إجهاض التغيير ، وإعادة الأمور إلى نصابها.
يصف الرئيس التونسي هذه المخاوف من التيار الإسلامي بقوله : «حقاً، حفيظتهم على أداء الإسلاميين في الحكم أكثر من مشروعه. لا شك في نزعة التغوّل التي أظهرها البعض منهم، عندما مسكوا الدولة، لا جدال في أن آخرين من بينهم، تصوروا أن مهمة الشركاء العلمانيين إعطاء بعض الغطاء الحداثي، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، لسلطة رسالتها أسلمة الدولة والمجتمع. بديهي كذلك أن فعاليتهم في إدارة شؤون الناس لم تكن مذهلة، لكن ماذا يساوي كل هذا مقارنة بالمكسب الرئيسي لدخول جزء كبير من الإسلاميين في الديمقراطية»؟.
ويضيف المثقف الرئيس منصف المرزوقي قائلاً : ثم هل من المقبول أن تؤدي هذه الحفيظة، على شرعيتها، للتحالف مع الثورة المضادة، وهي مكوّنة أساساً من ألدّ أعداء الديمقراطية الذين ساموا خسفاً لا الإسلاميين فحسب وإنما الديمقراطيين العلمانيين أنفسهم، ومن المؤكّد أنهم لو عادوا للسلطة لعجّلوا بحلفاء عابرين، أعماهم غضب مفهوم عن تحالف بلا أفق سوى خسارة كل شيء، وأساساً الشرف؟.
لنتوقف لحظة عند سيناريو نجاح الثورة المضادة، بفضل حلف غير طبيعي بين هؤلاء وفلول الاستبداد.
لقد حاول منصف المرزوقي بهذه الدراسة العميقة التي نشرها قبل عدة أشهر أن يستشرف المخاطر المترتبة عن التحالف بين المتحفظين الغاضبين من التيار الإسلامي ، مع الثورة المضادة ؛ ونحن نشاهد الآن في المسار المصري توقعات المرزوقي تتحقق على الأرض.
بقول الرجل معلقاً في وقت مبكر على ملامح التحالف الجديد الذي بدأ يتشكل ضداً على « الاسلاميين» : « ما يجري حاليا هو تدمير لأكثر من ثلاثة عقود من العمل الفكري والسياسي الجبار، ودعم مفاجئ للتيار المتشدّد الرافض للديمقراطية منذ البداية، والذي يستطيع اليوم أن يضحك بشماتة من الإسلاميين الذين انخرطوا في المشروع الديمقراطي ولسان حاله يقول: ألم نقل لكم إنه طريق لا يؤدي إلا لخسارة الدين والدنيا! ».
ويرى أن « أي نظام سينتج عنه » يقصد التحالف مع الثورة المضادة « سيجد نفسه في وضع المحاصَر بعد أن كان في وضع المحاصِر. إنه سيكون بحاجة إلى أقصى قدر من العنف لفرض سطوته. الشيء الذي سيؤدّي بالطبع إلى ظهور عنف مضادّ ستتزعّمه وتقوده الجماعات الإسلامية المتطرفة، كل هذا سيقودنا إلى اشتعال حرب مدمّرة ستأتي على حظوظ الفقراء للخروج من فقرهم، إذ لا أحد يتصوّر نهضة اقتصادية واجتماعية في جوّ كهذا».
ويتوقع المرزوقي ثورة عارمة لو عاد النظام القديم بالتحالف بين قوى الثورة المضادة واليساريين المتحفظين على الإسلاميين. فبرأيه أن من البديهي أيضاً أن نفس الأسباب تؤدي لنفس النتائج، وأن عودة شكل أو آخر من النظام القديم سيعني لا فقط عودة القمع وإنما مزيداً من الفساد والتزييف والظلم، مما سيؤدي إلى قيام ثورة ثانية لن تكون لا سلمية ولا ديمقراطية هذه المرة .
هذا المسار الذي يتحدث عنه يبدو أكثر من واضح في المشهد المصري. فمع تفويض « المجلس العسكري » للسيسي للترشح للرئاسة يتبدى الجيش وكأنه حزب سياسي وليس مؤسسة وطنية سيادية مهمتها حماية البلاد وأخذ مسافة كافية من جميع الفرقاء السياسيين.
وقذ ذهبت الثورة المضادة بعيداً في أسلوبها الانتقامي ؛ والتنكيل بالرئيس المنتخب محمد مرسي وقيادات الإخوان المسلمين الذين عُرضوا ظهر أمس في القفص الزجاجي منهكين وفي حالة إنسانية مزرية بفعل التنكيل الذي يصل ذروته في اليوم السابق لقدومهم إلى المحكمة ؛ وهو تنكيل بدائي همجي يحركه حقد النظام القديم على التيار السياسي الذي كان له دور في الإطاحة به باعتباره جزءاً من الشعب المصري وقواه السياسية والاجتماعية التي انتظمت في الثورة ضد النظام القديم / الجديد.
ينتقمون في القاهرة من ثورة 25 يناير بالتنكيل بالرئيس المنتخب وقيادات الاخوان في يوم انضمامهم للثورة « 28 يناير »، ولن يطول الوقت قبل أن ينكلوا بكل الفرقاء الآخرين، فيكفي أن القبضة الأمنية قد عادت بحذافيرها؛ أو ليست محاكمة عمرو حمزاوي أيضاً عنواناً لهذه القبضة التي لن يفلت منها أحد !!
وما دام وقد بدأنا بالرئيس المثقف منصف المرزوقي ؛ فلنختم بكلماته الرائعة هذه التي تؤكد على الديمقراطية باعتبارها سفينة النجاة : «قناعتي كانت وستبقى أنه يجب التشبث بالديمقراطية أكثر من أي وقت مضى والعودة إليها حالاً، وإلا فإنه الجحيم.. جحيم بدأت تتصاعد بعض حرائقه وتتكدّس مئات من قتلاه وآلاف من جرحاه منذرة بأن ما قد يحدث أعظم.. جحيم لن يفلت من لهيبه أحد»
.. جحيم لن يفلت من لهيبه أحد ..