من الأرشيف

أيام في صنعاء

لا تفتح لك صنعاء أبوابها وحسب، ولكن تفتح لك كنوزها السرية، وسحرها الآسر، وتنفتح على عالم من صنعاءات مختلفة، التاريخ يتمشى واثقاً من نفسه في أزقة المدينة القديمة، والحاضر يحتشد في شوارع المدينة خارج السور القديم، وكما تعج صنعاء بضجيج السيارات، فإنها تحفل كذلك بضجيج وسائل الإعلام التي انفلتت من عقالها، وانطلقت فرحة بالمكتسب الجديد من الحريات التي لم تعد تعرف قيوداً.

يوم 21 كانون الثاني/يناير، كنت في قاعة مؤتمر الحوار الوطني، أتملى عيون اليمنيين المليئة بالأمل والتفاؤل، جاء خبر اغتيال عضو مؤتمر الحوار الوطني الدكتور أحمد شرف الدين صباح ذلك اليوم صاعقاً، يد آثمة امتدت إليه، وهو في طريقه للتوقيع على وثيقة مخرجات الحوار الوطني، الرصاصات الغادرة لم ترد قتله وحسب، ولكن أرادت اغتيال مؤتمر الحوار الوطني في آخر يوم من أيام عمله. وصل الخبر للقاعة، فاشتد الهرج والمرج، وسادت لحظات من الاضطراب، الحوثيون أرادوا رفع الجلسة، أو ربما افشالها، خرجوا، وخرج معهم البعض، تعالت الأصوات مطالبة بوقف سير عمل الجلسة. الدكتور أبوبكر القربي وزير الخارجية، يحدث الدكتور عبدالكريم الإرياني نائب رئيس مؤتمر الحوار بضرورة إبلاغ الرئيس عبدربه منصور هادي فوراً، الإيرياني في ما يبدو كان يريد رفع الجلسة، وصل الخبر للرئيس هادي، حضر هادي بسرعة متجاوزاً إجراءات الأمن وقواعد تحركات الرئيس وترك موكبه الأمني وجاء على عجل، الحوار سينفجر، والوطن على المحك، وبعض الأعضاء بدأوا بالخروج من القاعة. وفجأة حضر الرئيس، في جو مشحون، صعد الرئيس المنصة أمسك بالميكرفون وخاطب القاعة بكلام مرتجل ومؤثر، كان له دور في تثبيت الحضور، وعودة من تهيأ للانسحاب، قال هادي من أراد أن ينسحب فلينسحب، لكن الانسحاب تراجع وهزيمة وعودة للوراء، واستسلام لقوى الشر التي تريد أن تعيق عمل قوى الخير. ترحم هادي على الدكتور شرف الدين، لكنه أكد أن اغتياله لن يوقف عجلة الحوار، وأكد ألا تراجع للوراء وخاطب الرئيس أعضاء الحوار بأنه حتى لو اغتيل رئيس الجمهورية نفسه والطاقم الذي معه فإن الحوار مستمر ولن يتعطل. وخاطب الرئيس المنسحبين بقوله لا تنسحبوا، الانسحاب جبن وهزيمة، وقال هادي كلاماً كثيراً عن الماضي القريب، وكيف أنه استلم وطناً منقسماً على نفسه، وعاصمة تقطع أوردتها النقاط العسكرية، وكيف استلم بنكاً فارغاً وبلداً على حافة الانهيار، وكيف أصبحت الأمور اليوم.

هدأت القاعة، وعاد الأعضاء لسماع التقارير النهائية، ورب ضارة نافعة. أراد من اغتال شرف الدين أن يخلط الأوراق، لكن عملية الاغتيال دفعت الأعضاء إلى سرعة التصويت على وثيقة الحوار. تحدث الرئيس هادي يومها حديثاً من القلب إلى القلب، ووقف الأعضاء يرددون ‘الشعب يريد بناء يمن جديد’، أكثر من مرة، وعمت موجة حماس والتمعت الدموع في عينيّ الرئيس، وفي عيون كثيرة تخاف على البلد من قادمات الأيام.

وثيقة مخرجات الحوار الوطني هي الأساس الذي سيبنى عليه الدستور الجديد، فيها الكثير مما يحتاج إليه اليمنيون لبناء دولة مدنية حديثة، نصت على أنواع مختلفة من الحريات والحقوق، واستلهمت الكثير من الأسس النظرية الطموحة في الدساتير العالمية، والمعول على التنفيذ بالطبع، لكن اليمنيين وصلوا إلى توافقات محددة في معترك الحوار الذي كان مقرراً له أن يستمر ستة أشهر لكنه امتد على مدى زمني بلغ عشرة من الشهور.

يوم 25 يناير كنا على موعد مع الحفل الرسمي لاختتام الحوار الوطني، كانت الفرحة غامرة داخل قاعة الاحتفال في القصر الجمهوري وخارجها، أسأل صاحب سيارة الاجرة هل أنت متفائل بنهاية الحوار الوطني؟ يرد بعفوية ‘على الله’، ويواصل: ‘تعبنا يا أخي نشتي (نريد) نهدأ من المشاكل، ونعيش مثل الناس′. وأمر على نقطة تفتيش، يقول أحد أفراد النقطة الأمنية مرت علينا عشرة شهور واحنا ‘نحن’ نحرس أعضاء المؤتمر، ونضع أرواحنا على أكفنا لانجاح الحوار واليمن أمانة في أعناقهم’. أودع رجل الأمن، ولا تزال لمعة عينيه المفعمة بالأمل أمام عيني، وأنا أكتب عن صنعاء الصابرة المحتسبة.
وفي مقيل رئيس الوزراء اليمني محمد سالم باسندوة، قال لي باسندوة كلاماً كثيراً حول الفساد وقضاياه، والصفقات المشبوهة التي كانت في حقلي النفط والغاز، وأكد أن من حق اليمنيين تغيير تسعيرة بيع الغاز للشركات التي وقعت معها الحكومة السابقة اتفاقيات تسويقه. يشترك اليمنيون جميعاً في جلسة القات وطقوسها، يناقشون السياسة والاقتصاد وفلسطين وإسرائيل، والربيع العربي بالمستوى نفسه شعبياً ورسمياً في جلسات المقيل.

اليمني شخص بسيط غير معقد، كريم ومعطاء، ويؤثر على نفسه، تجد ذلك في وجه أصدقائك القدامى الذين ودعت صنعاء وهم عاتبون عليك لأنك لم تجب دعوة الضيافة في بلد الضيافة والعطاء. واليمنيون يحتضنون مئات الآلاف من إخوتهم اللاجئين الصوماليين، من دون أن يطلبوا دعماً للاجئين من أحد، ومن دون أن يملأوا الدنيا ضجيجاً بما يقدمون لأشقائهم، رغم أن الاقتصاد يعاني من ويلات كثيرة. واليمني صبور ومثابر، تجد ذلك في وجه البائع المتجول في إشارات المرور الذي يعلق عقد ‘الفل’ على رقبتك، وتسأله بكم؟ فيقول: ‘ما اشتيت’، أي ‘بالذي تريد’، وتجده في باعة صنعاء القديمة الذين لا تخرج من حوانيتهم إلا وأنت راض عن البضاعة والسعر في الوقت ذاته.

والحس القومي والإسلامي موجود في اليمن بشكل كبير، والتفاعل مع قضايا العرب والمسلمين تجده واضحاً في تحركات الشارع اليمني الذي يتظاهر لما يحدث في أي بقعة من بقاع الأشقاء، وفي المساجد، وعلى المستوى الرسمي. والمرأة اليمنية بدت في هالة من الثقة بالنفس، تتحدث وتناقش في أمور السياسة والاقتصاد والشعر والأدب، وفي قاعات الحوار كان للمرأة اليمنية دور فاعل في حسم الكثير من القضايا. ظهرت المرأة اليمنية محاورة ذكية، وذات حس وطني مسؤول، وبعض اللجان في الحوار الوطني سار عملها بسهولة وسلاسة نتيجة لوجود العنصر النسائي الذي يميل إلى التوافقات، والبعد عن إثارة الخلافات.

اليمنيون طيبون وكرماء ومنتجون، ويتفاعلون بسرعة مع إيقاع العصر، وتواقون لحياة كريمة. يحتاجون فقط قيادة تفجر ما لديهم من طاقات، وتبعث فيهم الشعور بالانتماء للأرض والتاريخ والثقافة العربية الأصيلة، واليمنيون لا يموتون وإن ضعفوا في بعض فترات تاريخهم، لأنهم يتكئون على تاريخ عريق، لا تزال شواهده في كل ذرة من ذرات ترابهم الوطني. فقط عليهم أن يجعلوا التاريخ ملهماً لروحهم الوطنية، لا قيداً أو عبئاً على حاضرهم ومستقبلهم.

وداعاً صنعاء وداعاً أيها اليمن.. ‘بلدة طيبة ورب غفور’، صدق الله العظيم

زر الذهاب إلى الأعلى