من الناحية النظرية، من المفترض أن يكون تقسيم اليمن (غير السعيد) إلى ست فيدراليات، مدخلاً لحل إشكاليات الإجحاف في توزيع السلطة والثروة بعدالة بين المواطنين اليمنيين ... لكن من الناحية العملية، يبدو أن التقسيمات الجديدة لليمن، ستكون مدخلاً لجولات جديدة من الصراع، الدامي ربما، طالما أن هذه التقسيمات، لم ترض الأطراف المستهدفة بها بالأساس، وهم أبناء الجنوب وجماعة الحوثيين، وتتسبب لآخرين، ب “مظلمات” جديدة.
منذ التحاق اليمن بقطار الربيع العربي، دار صراع محتدم، محلي وإقليمي، حول الصيغة الفيدرالية الأنسب لليمن، الجنوبيون التواقون في غالبيتهم للانفصال بعد سنوات طويلة من الخيبة والتهميش والتمييز، كان يمكن احتواء غضبهم لو أن التقسيمات حافظت على وحدة الإقليم الجنوبي، وجرى تقسيم اليمن إلى إقليمين اثنين فقط ... بيد أن بعض الأطراف اليمنية كانت تخشى أن يكون “سيناريو” كهذا مدخلاً لانفصال الجنوب وعودة دولته التي كانت “اشتراكية” ذات يوم، إلى الوجود.
العامل الأهم الذي قرر (فرض) صيغة الأقاليم الستة، ليس محلياً أبداً، بل إقليمي بامتياز ... دول عربية مجاورة لليمن، هي من شجع وضغط وحشّد باتجاه هذه الصيغة التي من شأنها إضعاف الجنوبين، المدعومة بعض قواهم من إيران، وعزل الحوثيين في “الداخل” اليمني، من دون منفذ إلى البحر، وثمة في اليمن من يعتقد، وهم كثرة كاثرة على أية حال، بأن دولاً عربية لا تريد لليمن أن تقوم له قائمة، وأنها تفضل التعامل مع “6 حكومات” متناحرة على التعامل مع حكومة مركزية قوية، أو مع يمن جنوبي غير خاضع للسيطرة والإملاءات، وهذه قصة باتت “سراً ذائعاً” يتداوله كل يمني على أية حال.
رفض الاشتراكيون وقوى الحراك الجنوبي تقسيم الجنوب إلى إقليمين، لذا من المتوقع أن يستمر الجنوب في إطلاق حراكاته، وربما ينتقل الصراع إلى أشكال أكثر عنفاً ودموية، وقد ينضم إلى هذا الحراك، متضررون جنوبيون من تقسيم الإقليم، فأهل المهرة على أقل تقدير، لا يرتضون الالتحاق بحضرموت، وهم يريدون إقليمهم الخاص، ولديهم منفذهم على البحار والمحيطات.
أما الحوثيون فلديهم أيضاَ أسبابهم لرفض هذه التقسيمات، سيما بعد أن حشرتهم التقسيمات الجديدة في الداخل، وسعت في تبديد “أغلبيتهم” في مناطق الإقليم الجديد ... والأرجح أنه “أنصار الله”، لن يلقوا سلاحهم أبداً، سيما بعد المكاسب الميدانية الهامة التي حققوها في الآونة الأخيرة.
وإلى جانب الجنوبين والحوثيين، بدأنا نسمع عن “مظلمات” كثيرة سيتسبب بها التقسيم المجحف للبلاد إلى قطع ست ... هناك من يتحدث عن تركز الثروة في أقاليم كثافة سكانية قليلة، وهناك من يرى أن الجغرافيا اليمنية لم توزع بإنصاف بين الأقاليم، وهناك من رأى أن المشروع برمته مضبوط على مقاس “الصراع الإيراني – السعودي” في المنطقة، ووفقاً لمقتضيات الصراع الإقليمي الأكبر المندلع في الإقليم، وكل هذه المظلمات، ستجد طريقها للتعبير عن ذاتها، وستبلور قواها الاجتماعية الحاملة لها، في قادمات الأيام.
الدولة اليمنية التي تقف على حافة السقوط في لائحة “الدول الفاشلة” ... سمحت طائعة أم مرغمة، بتحويل البلاد إلى ساحة لكل أشكال التدخل الإقليمي والدولي، بل و”صندوق بريد” لتبادل الرسائل الإقليمية الدامية، في اليمن وعلى حساب شعبه وأمنه واستقراره ورفاه أبنائه ... وما من دولة إقليمية ممتدة، إلا وبات لها حلفاؤها وأعوانها من بين اليمنيين ... وما يزيد الطين بلّة، أن هذه التحالفات في حالة تبدل وتغير مستمرين، فالذين دعموا “حاشد” و”الإصلاح” بالأمس، يفتتحون اليوم قنوات اتصال مع الحوثيين، ومن كانوا خلف الدعوات لانفصال الجنوب يعارضونه اليوم، والصراع بين السلفيين والإخوان ورعاتهم من دول الخليج المتنافسة، ينعكس بعواقبه الوخيمة على معادلات القوى وتحالفاتها في البلاد.
في ظروف من مثل تلك التي يعيشها اليمن، ستفتح “الفديراليات الست” شهية “الهويات المحلية” من جهوية وعشائرية لمزيد من التشظي والانشطارات ... وقد تصبح عتبة أولى لتقسيم البلاد إلى كيانات متناحرة، سيما وأن الدولة اليمنية التي أضعفها علي عبد الله صالح وأحالها إلى “فريق من بين أفرقاء كثر”، لم تعد الفريق الأقوى في البلاد، صاحب الحق الحصري في استخدام أدوات القهر وأجهزة الإعلام والعلاقات الدولية والجباية المالية، فكل فريق لديه جيشه الخاص ومؤسساته المستقبلة والموازية، وسرعان ما سنرى انعكاسات ذلك على مستقبل العلاقات بين “الفيدراليات”، بل وعلى مستقبل اليمن.