أرشيف الرأي

أمراء الحرب والطوائف اللبنانية كانوا ارحم ببلدهم من حكام اليمن

في سبعينات القرن العشرين وخلال الحرب الأهلية اللبنانية تم طرح تقسيم لبنان على ‏كانتونات1 طائفية، وتحويله إلى دولة اتحادية على نمط سويسرا؛ غير أن معظم أمراء الحرب ‏والطوائف اللبنانية رفضوا هذا الطرح وتمسكوا بوحدة لبنان وتماسك أراضيه. وكان من أشهر ‏هؤلاء بشير الجميل – أكثر أمراء الحرب دموية – والذي رفع شعار " لبنان أل 10452 ‏كيلومتر مربع" (المساحة الإجمالية للبنان).‏

في دولة لا يحول دون انهيارها سوى موارد شحيحة من النفط والغاز، وخوف إقليمي ودولي ‏من انهيارها؛ يقوم من تولى أمرها بتحويلها إلى كانتونات طائفية وجهوية. وهم بذلك يكونون ‏أقل مسئولية ورحمة من أمراء الحرب والطوائف اللبنانية.‏

هذا التقسيم أتى على خلفية رغبات سلطوية للرئيس هادي وفريقه، وأجندات خفيه لبعض ‏القوى، ومصالح أنانية لبعض السماسرة، ممن يحلمون بوراثة مراكز النفوذ في صفقات النفط ‏والغاز، وأحلام أنصاف المثقفين بدولة جديدة تشبه الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. ‏

جميع هؤلاء لا ينظر إلى ما بعد أرنبة أنفه، فاليمن لا يمكن أن يستقر ويصبح دولة حقيقية إلا ‏بحكومة مركزية قوية تبسط سيطرتها على كامل ترابه، وغير ذلك ليس إلا الفوضى والعنف. ‏فالتاريخ، الحديث والقديم لليمن، يؤكد بأن اليمن لم يعرف التنمية والازدهار إلا حين كانت ‏سلطة مركزية واحدة تسيطر على أجزاء كبيرة من ما يعرف باليمن. حدث هذا خلال حكم ‏الصليحيين والرسوليين، وغيرهم.‏

كما أن تجارب الشعوب الشبيهة بأحوال اليمن، تؤكد على أن الازدهار والتنمية لا تتم إلا ‏بواسطة حكومة مركزية تقوم بتجميع كل عناصر القوة الاقتصادية والاجتماعية في الدولة، ‏وإدارتها مركزيا لتحقيق تلك الأهداف. فشرط التنمية الأول هو الاستقرار السياسي/الأمني، ‏وهذا الشرط سيكون غائبا تماما في ظل الفدرالية المقترحة لليمن. فكنتونات اليمن القادمة ‏ستشهد صراعات في داخلها، وصراعات فيما بينها البين، وصراعات مع الحكومة المركزية، ‏والتي ستتحول إلى كانتون إضافي ضمن الفوضى المتوقعة.‏

فعلى سبيل المثال سيشهد الكانتون الزيدي - المسمى تحببا بإقليم أزال - صراعا بين مكوناته ‏القبلية، والمذهبية، والسياسية، خاصة وان هذا الكانتون يضم أكبر مخزون للقبائل المحاربة، ‏ويفتقر للموارد، ويظم بداخله العاصمة السياسية للدولة، والتي سيكون السيطرة عليها هدفا ‏للقوى المتصارعة من داخله وخارجه. وانتشار العنف، والفوضى داخل الكانتون الزيدي ‏ستؤثر على جميع الكانتونات الأخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أنه سيؤدي إلى ‏اضطراب في أداء الحكومة المركزية، وربما سقوطها في يد أحد الأطراف المتصارعة. وهذه ‏النتيجة الواقعية جدا تعني بأن جميع الكانتونات الأخرى لن تشهد الرخاء والسلام والازدهار، ‏كما يعتقد الحالمون والواهمون في هذه الكانتونات، حين اعتقدوا بأنهم قد أصبحوا في مأمن ‏بعد أن عزلوا ما يعتبرونه المنطقة الخطرة داخل الإقليم الزيدي. فهذا العزل لن يتم حتى لو ‏بُنيت أسوار، وحُفرت أخاديد، فالاضطرابات في هذا الإقليم ستصل الجميع بدرجات مختلفة.‏

من جهة أخرى سيصبح إقليم حضرموت، والذي سيضم ما يقارب ثلثي مساحة اليمن و10% ‏من سكانه، بمثابة جمهورية أرض صومال أخرى، حيث من المتوقع أن يشهد هذا الإقليم ‏استقرار نسبي، مقارنة بالأقاليم الأخرى، نظرا لزيادة موارده الطبيعية، وقلة سكانه، وحجم ‏الاهتمام الإقليمي والدولي به. وخروج هذا الإقليم عن بقية أجزاء اليمن، سيحرمها من أهم ‏شرايين الحياة، المتمثلة بعوائد النفط التي تغذي ميزانيتها الكسيحة. وحرمان الحكومة ‏المركزية، وبقية الأقاليم، بشكل كلي أو جزئي، من هذه العوائد سيؤدي إلى توقف معظم ‏الخدمات الأساسية في بقية الأقاليم، حين تعجز الحكومة المركزية عن دفع معظم رواتب ‏الموظفين في المركز والأقاليم الأخرى.‏

وحتى إقليم حضرموت لن يكون بعيدا عن الفوضى والاضطراب، إذ أن من المتوقع أن ‏تصله لهيب النار التي ستشتعل في بقية أجزاء اليمن. إضافة إلى أن أهميته الإستراتيجية ‏وثرواته ستجعله منطقة صراع وتنافس إقليمي ودولي، والنتيجة الإجمالية أن الفدرالية لن ‏تكون سوى صيغة للفوضى في اليمن. ‏

النتائج التي ذكرناها ليست حالة تجلي، أو كشف صوفي، أو عملية تنجيم، ولكنها قراءة ‏علمية لواقع اليمن، لمن يريد أن يقرأه، بدون حسابات ذاتية، وأوهام مرضية، وأحلام طفولية. ‏

‏1 الكانتونات هي أسم للوحدات التي يتشكل منها الاتحاد السويسري والتي يصل عددها إلى ‏‏26 كانتونا، وبعضها لا يتعدى عدد سكانه العشرين ألف نسمة.‏

زر الذهاب إلى الأعلى