*بقلم : عبدالوهاب العمراني
إلى أين يتجه اليمنيون ؟ ولماذا الهرولة باتجاه الفدرالية وكأنها قدر محتوم لليمنيين وهل تأتي تلك الحلول بإيحاء خارجي أم بالفعل بإرادة قناعة يمنية صرفه ؟ ولماذا لا تطرح مثل هذه الحلول المصيرية للاستفتاء، أسئلة متداولة في الألسن، وعكستها وسائط اجتماعية وبصورة تصاعدية..
ولقد كُتب الكثير عن إشكالية الحلول الفدرالية في الإعلام اليمني بكل اتجاهاته وكذا لكُتاب عرب في هذا الفضاء الإعلامي الواسع وقد لاحظت كغيري في الآونة الأخيرة مقالات تتناول الشأن اليمني ولاسيما في جزئية الفدرالية تتراوح بين اليأس والرجاء والبعض بنوع من التشكك وعدم الرضاء، لهذه الخطوة، ربما لأن الكتاب من خارج الحدود ينظرون للمشهد السياسي اليمني نظرة بانورامية شاملة وقد تختلف عما يرى اليمنيون أنفسهم، والذين يفترض بأنهم أدرى بشعابهم، لان تلك الكتابات تنطوي لاشك على خلاصة لمألات الربيع العربي عموما ولابد أن تأخذ بعين الاعتبار، فقد تكون الرؤية الخارجية صائبة، فاليمنيون أعماهم التناحر ومكائد السياسة..
فمن يعيش الحدث ليس بالضرورة اكتمال الصورة فذلك يعتبر سلاح ذو حدين فمعايشة الحدث من جهة يوحي بمعرفة ودراية كاملة، وقد يُفسر من جهة أخرى بأن اختلاط الأوراق وتفاعل اعتبارات اجتماعية وعاطفية وتداخل جملة قضايا تفقدهم البوصلة، وإجمالا لم يكن المؤمل أن تؤل نتائج حوار طويل إلى جدلية عقيمة للفدرالية وكأنها قدرا محتوما لليمنيين، الشيء المؤسف بأن النُخب التي أفرزتها الكيانات السياسية المتناحرة في الحوار الذي طال أمده، تتهافت على السلطة كما تتهافت الأكلة على قصعتها، وكأن السلطة غاية والمشاركة هي المبتغى، ومن هنا لا نجد تفسيرا مقنعاً للتهويل الإعلامي بتوزيع أشلاء الوطن المنهار أصلا إلى أقسام غير متجانسة ديمغرافياً واقتصادياً وجغرافياً، ناهيك عن عدم وجود دولة مركزية قوية، فالفدراليات في العالم بكافة إشكالها تستند لمركز قوي بينما تفتقد الحالة اليمنية المفترضة للفدرالية المقترحة، فالنظام السابق وكما هو معلوما لازال يتقاسم السلطة ويعارضها في نفس الوقت وإلا لو كان معارضا يسحب وزراءه وهم نصف الحكومة وستسقط تلقائيا !ً، اليوم تصب اللعنات لمن لم يؤسس دولة مدنية خلال ثلث قرن من الحكم المطلق فالرئيس السابق أول حاكم يمني منذ أكثر نحو ثلاثمائة سنة مضت أتيحت له فرصة بناء دولة بتوافر ظروف ذاتية وموضوعية فلو فعل ذلك لما حدث كل هذا اللغط والإحباط والتعثرات المتلاحقة، بل كان جل همه تثبيت حكمة وفي حقيقة الأمر لم يكن قويا بل استقوى بمقدرات البلد وبمراضاة هذا وذاك وسياسة الترغيب والترهيب وإفقار الشعب ليجعل كل همهم ملاحقة حياتهم المعيشية، ناهيك عن الارتماء في أحضان الخارج الإقليمي والدولي.
اللافت أيضا ومن خلال متابعات مجريات الحوار على مدى شهور طويلة يلاحظ البعض التركيز على الفدرالية وهذا يؤكد فرضية الإيعاز والإيحاء الخارجي، مع ان قضايا وهموم اليمن تتمحور في علاقة الحاكم بالمحكوم وبأن التشريعات والشعارات منذ أكثر من نصف قرن ماهى إلا مجرد حبرا على ورق، فلا نظام جمهوري يُقتدى ولا ديمقراطية حقيقية ولا وحدة عادلة .
الأمر المستغرب أيضا هو إصرار القيادة السياسية في الهرولة لتطبيق الفدرالية أكثر من الاهتمام بمخرجات الحوار الأخرى والأكثر أهمية والتي تصب في بناء دولة مدنية، متجاوزين إرادة ورأى الشعب، ولاسيما تلك الأطراف الأساسية في الحوار وهم الحراك الجنوبي وما عرف (بالحوثيين)، فكلاهما يرفضان الفدرالية أو على الأقل وفق صيغة الستة الأقاليم وهنا يكاد لسان حال الغالبية الصامتة ( رضينا بالهم والهم مش راضي بنا) ويتمحور تلك الشريحة المهمشة في جملة من التساؤلات حول إصرار النخب المتحاورة مع الساسة المحنطين لتمرير رؤى في غير سياق حلول مشاكل اليمن..
فبدلا من أن تكون مخرجات الثورة الشعبية تصب في إيجاد حلولا وعقد اجتماعي بين مكونات الشعب لتحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم بالعمل على تأسيس دولة مدنية لا تصطدم بثكنة العسكر ولا أسوار القبيلة يتساوى فيها اليمنيون في الحقوق والواجبات وتبسط نفوذها في كل بقاع اليمن، في نظام توافقي يسوده العدالة والتنمية والتوزيع العادل للثروة ولا إقصاء ولا تهميش، ولكن الحوار الذي استغرق نحو تسعة أشهر ولكنه قد تمخض لحلول ملغمة، وقد يلد (انفصالاً ناعماً) ماذا دهى اليمنيون وهم أهل الحكمة؟، ولماذا تصُر النُخب المتحاورة على حتمية الحلول الفدرالية وتختزل كل مشاكل اليمن في قضية الدولة الاتحادية وكأنها قدرا مكتوبا لليمن مع أن هناك بدائل عن المركزية المفرطة التي كانت سببا في تمركز السلطة في يد الحاكم المستبد منذ ميلاد الوحدة الموؤدة بيد صانعيها المهووسين بالسلطة وإقصاء شركائهم الذين ضحوا بدولة ودخلوا الوحدة بحسن نوايا، منها على سبيل المثال اعتماد المحافظات الحالية ومنحها صلاحيات واسعة باستثناء الأمور السيادية تماما كما هو معمول به في معظم الفدراليات، وكفى الله المؤمنين شر القتال!
وهنا بدوري اتسائل هل هي مصادفة تحول عدد من بلدان المشرق العربي إلى تقسيم المقسم ابتداء من (العراق الجديد) والذي بعد عقداً من الزمن لم يكن مثالا يُحتذى في نجاح تلك التجربة المقرون بديمقراطية زائفة، وهو الأمر في أقطار عربية أخرى تتجه للفدرالية كليبيا وربما سوريا، وهكذا وغداة اندلاع ثورات الربيع العربي فأنها من وجهة نظر الفكر الغربي قد مثلت تحولا كبيراً حيث اتجهت نحو ترجيح مشاريع فيما عرف بإعادة تشكيل المنطقة على أسس فدرالية وعلى خلفية تراجع واضمحلال الدولة البسيطة وفي ظل مع انحسار دور الايدولوجيا المتزامن مع ارتباك وعجز المجتمعات العربية عن إفراز نخب سياسية ناضجة لتكون بديلا للأحزاب الشمولية المطاح بها، الملاحظ انه عند اندلاع ثورات الربيع العربي بدأت تظهر مفاهيم جديدة في تطبيقات التقسيم والتي يمكن تسميتها ( بالتجزئة داخل الحدود) وذلك ينبع من القناعة بعدم جدوى مشاريع التفسيم في ظل المعادلة الاقليمية المعقدة اصلاً!.
وأخيراُ قال لي أحد قرائي من الأصدقاء بأن مقالاتي في هذه الجزئية تحديداً يلازمها التشاؤم في حين هناك مساحة للتفاؤل، فأجبته، لا أريد أن ازرع اليأس والقنوط في نفوس قرائي، ولكن الواقع يفرض نفسه فلا ندس رؤوسنا في الرمال، لان هناك جملة أسباب قبلية اجتماعية وسياسية واقتصادية والعسكرية والإدارية مجتمعة تجعل من سلاسة سير الفدرالية كما هو مؤمل لها امرا شبه مستحيل، ورغم ذلك أرجو ان تكون هواجسي في غير محلها..
* كاتب وسياسي يمني