من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
الامام الغزالي
لوحظ ان بعض الاعلاميين وغيرهم يقعون في خطأ عدم التمييز بين متطلبات واقع متغير اختلفت معطياته وحالات سابقة لها مسبباتها، ومنها الموقف من السعودية حيث ان البعض لم يستوعب بعد المتغيرات الجوهرية التي حصلت في الوطن العربي وفرضت تغييرا حاسما للمواقف كافة ومنها موقف السعودية المتطور من قضية العراق وسورية ومصر خصوصا موقفها تجاه إيران وأمريكا.
ان الخطا الكبير الذي يرتكبه الذين يتحدثون عن السعودية الان مستخدمين منطق الامس وما قبل التغييرات الحاسمة التي اعقبت انكشاف حقيقة كنا نحذر منها وهي ان أمريكا تبنت المخطط الصهيوني القديم القائم على تقسيم الاقطار العربية ووضعت لتنفيذه بفعالية خطة أمريكية اسمها (الفوضى الخلاقة) والتي تعني عمليا التدمير المنظم للوحدة القطرية الكيانية لكافة الاقطار العربية، عبر اشعال فتن كبرى دينية وطائفية وعرقية وايديولوجية وقبلية...الخ تؤدي في نهاية المطاف إلى هيمنة الفوضى الهلاكة وتقسيم القطر الواحد بعد ابادة ملايين العرب وتهجير ملايين اخرى وجلب سكان غير عرب للحلول محلهم، كما جرى ويجري في العراق مثلا حيث جلب الاحتلال اكثر من اربعة ملايين اجنبي واسكن اغلبهم العراق ومنحهم الجنسية العراقية بهدف تغيير هوية العراق القومية والوطنية.
ان الاسئلة التي ربما لم تخطر على بال البعض كثيرة ومترابطة ومنها : هل سعودية عام 2012 وما بعده هي نفسها سعودية عام 1991 وسعودية عام 2010، من زاوية محددة وهي موقفها مما يجري في الوطن العربي؟ ان الاجابة على هذا السؤال حيوية جدا لانها تحدد مسار التفكير وتجنبه عثرات الخلط بين مراحل مختلفة لكل منها متطلبات وضرورات خاصة به. نعم الحكام العرب انفسهم لكنهم وهم يواجهون تحد غير مسبوق وهو ان أمريكا التي كانت تدعي حماية السعودية ودول الخليج العربي تنفذ الان سياسية تخدم إيران واسرائيل محورها تقسيم الاقطار العربية كلها وتقاسمها مع قوى اقليمية منها إيران. فهل يتوقع كل عاقل ان الحكام العرب أو بعضهم بعد اكتشاف انهم يعدون للذبح ومعهم تذبح الوحدة الوطنية والهوية الوطنية لاقطارهم سوف يستسلمون بلا مقاومة أو رد فعل غريزي يحصل لدى كل من يتعرض لخطر الفناء؟
منذ عام 2008 وضعت خطة لتسليم العراق إلى إيران كي تكمل تدميره وسلم فعلا في نهاية عام 2011، وفعلت نفس الشيء في سوريا، حيث دعمت الوجود الاستعماري الإيراني فيها، وفي البحرين، حيث بدأت خطوات تسليمها لإيران تحت غطاء (حق تقرير المصير) الذي يمرر باسم الديمقراطية وحقوق الانسان، واليمن، حيث اصبح واضحا جدا ان أمريكا تدعم التوسع الحوثي داخل اليمن وتعزز قدراته على الحدود مع السعودية، بالاضافة لتكريس الكيان الصهيوني وانهاء ا خر متعلقات القضية الفلسطينية ومنها مصير القدس وحق العودة. واخيرا وليس اخرا فان السعودية والبحرين بوجه خاص تعتقدان – بصواب تام - بان أمريكا تقف وراء فتن داخل مجلس التعاون الخليجي محورها استهداف السعودية والبحرين الان وغدا الكويت والامارات العربية المتحدة، من طرف أو اكثر داخل المجلس.
في ضوء ما تقدم فان السعودية الان، وقد اقتنعت بانها مستهدفة مباشرة، من أمريكا ككيان وطني وكهوية عربية وليس كنظام فقط وانها وضعت على منصة الذبح عمليا، وان ما حصل ويحصل في العديد من الاقطار العربية بدأت نيرانه تصل اليها بدعم أمريكي صريح، جعلها تلجأ لاخر سلاح غريزي يحتمي به البشر وهو غريزة البقاء. لقد سجلت السعودية في العام الماضي مواقف لابد من الوقوف عندها اهمها وابرزها الاعلان الصريح عن رفضها للتحول الرسمي في السياسية الأمريكية والذي تبلور لها كاملا في عام 2013 والمتمثل في عقد صفقة كبرى وخطيرة مع إيران تشمل السعودية والعراق وسوريا والبحرين ولبنان واليمن من بين امور اخرى عمادها تقسيم الاقطار العربية وتقاسمها مع إيران واسرائيل واطراف اخرى.
لذلك، وبما ان (حاميها حراميها) كما يقول المثل العراقي، وقفت السعودية، بقوة غريزة البقاء الطاغية على الايديولوجيات والتحالفات والامتيازات والمنطق العادي، تدافع عن بقاءها ككيان وطني وكنظام سياسي، ولئن كانت السياسات الداخلية، هي مسوؤلية ابناء السعودية فهم من يقررون كيفية معالجتها، وبالطبع لنا راي معروف وثابت عبر عنه سابقا القائد الشهيد صدام حسين لملك السعودية مباشرة بنصحه باجراء اصلاحات كبيرة لسد الثغرات، فان ما يهمنا من الموضوع هو مستقبل السعودية ومصيرها ككيان وطني وشعب وهوية قبل اهتمامنا بممارسات نظامها السياسية والاقتصادية وغيرهما. فالقاعدة المنطقية تقول (الوجود قبل مظاهر الوجود).
ما يجري خصوصا منذ كشف عمليا وعلنا في العام الماضي عن الصفقة الستراتيجية الاخطر منذ غزو فلسطين بين أمريكا وإيران حول سوريا والبحرين والعراق واليمن بشكل خاص هو بتحديد دقيق تهديد مباشر وصريح لوحدة السعودية الوطنية يشمل تقسيمها إلى عدة دويلات لم تتردد المصادر الأمريكية والصهيونية حتى عن تسميتها مثل دويلات الحجاز ونجد واقليم دولي يضم الاماكن المقدسة ويخرج عن السيادة العربية السعودية مكة المكرمة والمدينة المنورة وهو مطلب كانت إيران اول من طالبت به في عهد خميني وتكرر الان طرحه!!!
وشرع الاعلام والقادة والخبراء الأمريكيين بترويج معلومات عن السعودية في الغرب والعالم هدفها الاعداد للتدخل فيها أو تقسيمها، وقبل ذلك كانت قضية الموقف الأمريكي الداعم لإيران في البحرين مثيرة لاعمق مشاعر الخوف من الغدر الأمريكي، كل ذلك كان انذارا كبيرا ومباشرا للسعودية، فبدلا من حماية البحرين كما حصل خلال العقود الماضية اخذت أمريكا تعمل على نفس خط إيران وتماهت مواقفهما تماما، ولم يعد مخفيا ان احتمال تسليم البحرين إلى إيران تحت غطاء حق تقرير المصير اصبح مرجحا وقويا.
ولذلك وبخلاف ما ارادت أمريكا وحاولت فرضه على السعودية وغيرها تدخل درع الجزيرة في البحرين بفضل الاصرار السعودي وهو تدخل انقذ البحرين من اكتمال الاعداد الأمريكي- الإيراني لتسليمها إلى إيران فاحبطت الخطة وغضبت أمريكا، وتهسترت إيران وبدأ الصراع يتخذ طابعا مكشوفا تمثل في تبني أمريكا الكامل لنفس الموقف الإيراني في البحرين. وكشفت الاحداث خلال ثلاثة سنوات وجود خيول طروادة داخل التيار القومي العربي في البحرين ولاءهم الاول والاهم لإيران وليس للبحرين ولعروبتهم!!! وهذه الخيول اشد خطورة وانحطاطا اخلاقيا وانسانيا من عملاء إيران الرسميين مثل حزب الدعوة البحريني (جمعية الوفاق).
إلى جانب الموقف الأمريكي من البحرين كان هناك الموقف البالغ الخطورة والذي ينطوي على عواقب اخطر على كافة الاقطار العربية وفي مقدمتها السعودية وهو تسليم العراق إلى إيران في نهاية عام 2011، فبعد االتخفيف من الصدمة التي اصابت السعودية وغيرها من جراء اصرار أمريكا على تسليم الحكومة إلى المالكي بعد انتخابات عام 2010 رغم فوز اياد علاوي فيها رسميا مع انه احد ابرز رجالاتها في العراق، جاء تسليم العراق إلى إيران ليؤكد ويرسخ القناعة لدى السعودية بان أمريكا تخطط لاهلاك كل العرب حكاما وشعبا لصالح الكيان الصهيوني وإيران وبالطبع خدمة للمصالح الامركية.
بعد ذلك جاء مؤشر الانقلاب الأمريكي في سوريا ودلالاته الخطيرة، فبعد ان حرضت أمريكا وضغطت بقوة على كافة الاطراف السورية والعربية والاقليمية والدولية من اجل اسقاط النظام في سوريا وسحب الشرعية منه ووضعت حدا ادنى للعمل العسكري المعلن وهو انشاء منطقة حماية تمنع فيها القوات الجوية السورية من دخول المعركة، وبتأثير تلك الاعلانات الرسمية اندفعت قوى عديدة في موقفها من الازمة السورية منها المعارضة السورية وانظمة عربية واقليمية، وورطت عدة اطراف عربية واجنبية عندما اقنعتها واشنطن بوضع كل بيضها في سلة اسقاط النظام، بعد هذا كله فجأة انقلبت أمريكا وتبنت خطة ترفض اسقاط النظام ولحست كل اقوالها عن فقدان بشار للشرعية وان عليه الرحيل فورا والا فان الحرب تنتظره واصبح المطلوب أمريكيا هو بقاء بشار ونظامه ومنع استخدام القوة ضده!!!
وهذا الموقف نتيجته الاخطر هي تعزيز النفوذ الإيراني وتوسيعه والتمهيد لتحويل كافة الاقطار العربية وفي مقدمتها السعودية إلى عراق اخر وليبيا اخرى وسوريا اخرى. فهل من المنطقي ان تنتظر الضحية الجلاد ليجز رقبتها وهي تراه يتقدم نحوها دون رادع وبتصميم لا يلين؟
هذا الموقف شكل الصدمة الاكبر للسعودية وغيرها طبعا من الانظمة التي اعتقدت بان أمريكا تحميها ولاتفرط بها وهو ما اعترف به العديد من قادة السعودية وفي مقدمتهم الامير تركي الفيصل علنا في الامارات العربية، ولذلك كان طبيعيا توصل السعودية إلى قناعة تامة بان أمريكا قررت بيعها لإيران ولم يعد امامها من خيار سوى الانتقال من موقف التوافق مع موقف أمريكا والاعتماد عليها إلى موقف الدفاع عن بقاءها الكياني وليس فقط بقاء نظامها. وهذ هو حال البحرين ايضا.
وكان اول رد فعل كبير ونوعي للسعودية تتخذه لاول مرة هو رفض عضوية مجلس الامن والاعلان عن السبب وهو ان المجلس اداة ظلم ويخضع لأمريكا. ولذلك نتسائل : هل رأيتم نظاما عربيا موقفه أحسن من موقف السعودية التي قالت (أنا لا أتشرف بعضوية مجلس الأمن)؟ ربما سيقول البعض انه موقف طارئ أو شكلي ولفظي وهذا الرد متساذج لانه يهمل فهم حقيقة تتعلق به وهي ان السعودية تتحدي أمريكا وظلّام العالم علنا وتعبر عن وعيها لوجود مخطط لتقسيمها، وحتى لو كان ذلك بالكلام المجرد فهي ادانة من طرف عرف عنه الاعتماد على أمريكا والتعاون معها طوال عقود، وهذا بحد ذاته موقف يجب دعمه وتشجيعه وليس التشكيك به والتذكير بعلاقات السعودية بأمريكا خلال العقود الماضية للتقليل من اهميته واخفاء دلالاته العميقة.
صحيح ان طبيعة مجلس الامن كاداة بيد الكبار حقيقة قديمة ولكن ان تلتحق بالمؤمنين بها والمعلنين عن القناعة بها دولة كانت تعتمد على أمريكا ولها علاقات قديمة وراسخة معها مثل السعودية فهو تطور كبير لابد من فهم اسبابه الحقيقية وليس الظاهرية، كما يجب الان تجاوز مسالة دور السعودية في الاحداث الماضية لانه دور ينتمي لمرحلة تاريخية خطيرة ومعقدة انتهت وبدأت اخرى اكثر خطورة منها، لذلك فان الاهم الان هو مواجهة التحديات الكيانية الحالية وليس الاسهام في تفتيت السعودية بحجة دورها السابق. وعلينا ان نتذكر الاهم والاخطر في هذا الموضوع وهو ان التذكير بمواقف السعودية السابقة واعتبارها سببا للوقوف ضدها الان لن يعيد للعراق وغيره ما فقده بل سيضيف خسارة اخرى كبيرة جدا وهي تقسم السعودية وتدميرها وتشريد شعبها الشقيق.
نحن اول واهم من دعا إلى ان تسود العدالة داخل كل قطر عربي وناضل ومازال مستمرا بالنضال من اجل ذلك، ولكن قبل العدالة يجب حماية الوجود، فاين تطبق العدالة ويتحقق الاصلاح المطلوب اذا زال الوجود؟ لقد طغت حقيقة ان التهديد الان هو للوجود العربي وللهوية القومية العربية في كافة الاقطار وليس للانظمة فقط، ومن يشكك بهذه الحقيقة عليه ان ينظر لما جرى ويجري في العراق وسوريا وليبيا بشكل خاص، فبعد اسقاط الانظمة استمرت عمليات التدمير المنظم للدولة والمجتمع وللنسيج الاجتماعي كله، فهل هذا الامر هو مجرد اسقاط انظمة ام ان الاسقاط ليس سوى مقدمة لابد منها لنشر الفوضى الهلاكة؟
وفي هذه المرحلة فان اقطار الخليج العربي جاء دورها في مواجهة كوارث التفتيت والانقسامات والفوضى الهلاكة وهي الاكثر هشاشة من غيرها لسبب مميز وهو ان فيها جاليات اجنبية بعضها معاد للعروبة، وللدولة الام التي ينتمي اليها هؤلاء الاجانب العاملين في الخليج العربي مطامع في الخليج العربي مثل إيران وهو خطر غير موجود في بقية الاقطار العربية، لذلك فان الدعوة للاصلاح والديمقراطية في الخليج العربي اذا لم تأخذ هذه الميزة بنظر الاعتبار يقع دعاتها في فخ الاسهام المباشر في تقسيم وتقاسم الاقطار العربية وانهاء اي مشروع اصلاحي بما في ذلك الاصلاحين الضروريين الديمقراطي والاجتماعي.
لهذا يجب، اولا وقبل اي هدف اخر، ضمان البقاء وحماية الهوية والكيان الوطني العربي في اي قطر قبل النضال من اجل الاهداف الديمقراطية والاجتماعية، وتلك احدى ابسط بديهيات ترتيب الاولويات الستراتيجية المتبناة من قبل البعث منذ نشوءه، والتي بمعرفتها انتصرت حركات التحرر في العالم وبجهلها وبالخلط بين مهمات وواجبات التحرر الوطني وحماية الوجود القومي وبين النضال من اجل الديمقراطية تقهقرت وهزمت الثورات التحررية.
يتبع...