من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه..
الامام الغزالي
المهمة الاساسية بمواجهة سايكس بيكو الثانية
الذين لا يرون متغيرات الكون والمجتمع يبقون اسرى منطق شكلي لا صلة له بالواقع، ففي مرحلة تنفيذ سايكس بيكو الثانية، والتي تقوم على تقسيم الاقطار العربية وتحويلها إلى امارات هزيلة متناثرة ومتحاربة، يصبح السؤال الجوهري هو : هل نقف مع السعودية وغيرها وهي تتعرض للتقسيم وبغض النظر عن طبيعة نظامها ام نساهم في تقسيمها بمجرد الوقوف ضدها وهي تواجه المخطط الأمريكي الصهيوني الإيراني؟ عندما نوضع امام اختيار بين تقسيم السعودية، لانها وقفت في فترة سابقة ضد العراق، وبين ودعم السعودية بما في ذلك دعم النظام لان منع التقسيم يفرض التعاون مع النظام السائد مهما كانت طبيعته، فاننا نختار دعم السعودية ونظامها معا، وهذا الموقف هو الموقف القومي الطبيعي المعزول كل العزلة عن العواطف وثأرات (محاربي) حزب داحس والغبراء.
نؤكد اهم قواعد البداهة التي لا يمكن لاي وطني وقومي واسلامي حقيقي ان يتجاهلها وهي ان الوجود اهم من تجلياته فالتجليات تنبثق من الوجود وعندما ينتهي الوجود فمن الطبيعي ان تنتهي كافة التجليات كالديمقراطية والتقدم والحرية والراسمالية والاشتراكية والاستبداد والفساد...الخ، فهذه التشكيلات تعيش في واقع واذا زال زالت تلقائيا وبالحتم. وهنا يجب لفت النظر إلى ان دعم وحدة السعودية ضد التقسيم يصبح شعارا اجوفا ما لم نمتنع عن محاربتها تحت غطاء اسقاط النظام وتركيز نضالنا على الحاق الهزيمة بمن يقوم بعملية التقسيم. اذا حاربنا السعودية بحجة اسقاط نظامها فاننا لا نقوم بعمل وطني خالص ولا اصلاحي بارادة الشعب بل نخدم مباشرة عملية يقوم بها طرف ليس منا وهو معاد للامة العربية ولا يريد الاصلاح بأي شكل من اشكاله، وانما يريد استغلال ظواهر سلبية لتحقيق اهداف ابعد بكثير واخطر بمراحل من الضغط من اجل الاصلاح
ونتيجة دعم بعضنا مخططات تغيير لم نضعها نحن العرب بل وضعها اعداءنا التاريخيون والحاليون تبلورت دروس بوضوح يكفي لاقناع اي انسان لديه حد ادنى من الوعي والشعور بالمسؤولية، ومنها دروس سوريا واليمن وليبيا والعراق والبحرين ومصر وتونس، والتي تتلخص في حقيقة معاشة وهي ان ما يجري ليس الاصلاح المطلوب شعبيا والمشروع ثوريا وانما هو عمليات تدمير منظمة للاقطار العربية ووحدتها الوطنية وهويتها القومية ولشعبها ولدولتها الوطنية ولمؤسساتها، تدميرا شاملا لا يبقى اي مجال أو فرصة للاصلاح بعد ان تعصف الفوضى الهلاكة بكل ما ارتفع عن الارض من عمران وبشر.
هذه الدروس واضحة جدا وماثلة امامنا ليل نهار بكل كوارثها التي لم يفكر فيها من دعم دون نظرة نقدية متفحصة طلب تغيير الانظمة وانساق مع الموجة دون بحث فيمن ويقف وراءها وماهي اهدافها الحقيقية وهل حقا تلعب القوى الوطنية والشبابية فيها دور القائد المسيطر على مسارها ام ان من يقود بحزم واقتدار واضحين هو أمريكا واسرائيل وإيران واطراف اخرى.
اسقاط التقسيم اولا
هنا نصل واحدة من اهم الحقائق وهي ان المعيار الحاسم والاساسي واحيانا الوحيد للصواب والخطأ في مرحلة مواجهة اعاصير التقسيم والشرذمة المدمرة هو المعيار الوجودي أو الكياني، لان الكيان هو الارضية التي تعيش عليها الهوية القومية والناس الممثلين لها فوق الارض، وبدونها تتفكك وتزول كافة المعطيات الاخرى المبنية عليه سواء كانت مادية أو معنوية، لهذا فالمحافظة على الهوية القطرية في مرحلة شرذمة الكيانات القطرية وتحويلها إلى امارات مجهرية متناحرة واجب قومي لا يسبقه اي واجب، ولا تسبقه اي ضرورة أو مفهوم كالديمقراطية وحق تقرير المصير والعدالة.
من يقول بان ازالة الانظمة شرط لتحقيق الاصلاح ينطح صخرة من جرانيت لانه لا يرى ان حربا هي الاخطر والاشرس في العصر الحديث تشن فعلا على وجودنا القومي كبشر وكهوية ظانا انه يعيش في فترة استقرار عادي أو صراعات داخلية عادية وبلا تحديات، وفي تلك البيئة يصبح شعار الاصلاح بما ذلك عبر اسقاط الانظمة مطلبا مشروعا وضروريا. اما حينما تكون حرب الوجود هي التحدي الاخطر فان متطلباتها تتمركز بصرامة حول هدف واحد لا غير : الدفاع عن الوجود وتأجيل ما عداه لما بعد ضمان الوجود وحمايته وانها ء التهديدات التي تضربه.
نعم : عندما نقبر مخطط التقسيم والشرذمة وتنتهي حروب الابادة يجب ممارسة النضال ضد الفساد والاستبداد والتبعية في اي قطر، اما الان ونحن في ذروة حروب الابادة والتهديد المميت للوجود– ليس في قطر واحد بل في اغلب الاقطار - فالمطلوب منطقيا المحافظة على الموجود من اجل تحسينه أو تغيير بيئته وليس تدميره كليا، فازالة الموجود من الوجود يلغي منطقيا ضرورة الديمقراطية والاصلاح ويجعل المطالبة بهما عبثا وحماقة، وهذا ما يجب تذكره دائما لتجنب التحول إلى ادوات بيد العدو الذي نحاربه منذ عقود.
والاهم في كل هذا هو طرح السؤال التالي الذي يؤكد اهلية أو عدم اهلية من يناضل ويعمل من اجل التغيير: اذا حاربنا الان الانظمة العربية لانها فاسدة ومستبدة هل سنفوز بالنصر نحن ام ان غيرنا هو الفائز؟ الجواب الواضح هو اننا الخاسر الاكبر والفائز هو أمريكا واسرائيل وإيران فقد تحققت اهم اهدافهم وهي التدمير الشامل للدولة والمجتمع والنخب التكنوقراطية والخبراء والجيوش وتبدد مال جمع خلال اكثر من مائة عام في العراق وسوريا وليبيا وبدأت عمليات التدمير المنظم في البحرين واليمن ومصر وتونس والسودان وغيرها، والان وصلت النيران إلى السعودية.
الشعب هو الخاسر الاعظم وتتمثل تلك الخسارة في ارواح الالاف الذين ماتوا وعذابات مئات الالاف الذين سجنوا، ومحنة الملايين الذين تشردوا بفقد بيوتهم ووطنهم ومالهم وجرح كرامتهم ومحنتهم مستمرة حتى الان، اما الوطن فانه يتعرض لاكبر كوارثه اطلاقا تحت غطاء (الثورات العربية)العتيدة! ولذلك فان من يتجرأ على طرح سؤال (ماذا حققت الثورات؟) يواجه بالواقع الكارثي الذي كتبت فصوله بالدم والدموع والتشرد وفقدان الانسانية غالقا بقوة باب الحديث عن منافع (الثورات) الوهمية!
ما معنى ذلك تحديدا؟ معناه الاوضح هو ان النضال ضد الانظمة له اصول وضوابط وهو ليس نزوة أو كلمة تطلق في لحظة غضب، ولا هو نزعة انتقام في حرب داحس والغبراء ولا هو اعجاب مفرط بفلسفة (علي وعلى اعدائي)، النضال ضد الانظمة ليس موقفا ابديا لا يتغير حتى لو اشرقت الشمس من المغرب، بل هو يخضع لعلم وفن السياسة الثورية الذي يتحكم بهما العقل والمنطق والحكمة والمصلحة العامة في معناها الاوسع والاول وهو المحافظة على الوجود والهوية، لذلك فالنضال الثوري ليس نضالا فوضويا عدميا بل هو عمل منظم يتجنب النزوات القاصرة ويرى النتائج المترتبة على كل خطوة قبل الاقدام عليها.
يجب ان لا ننسى احدى اكبر البديهيات وهي ان الانظمة مرحلة وتمر فاما ان تزول بالقوة أو بغيرها أو تقوم بالاصلاح المطلوب شعبيا، والانظمة تتعرض لمؤثرات مختلفة ومتغيرة، فاليوم دول الخليج العربي التي كانت بالامس القريب محمية من أمريكا وقبلها من بريطانيا تجد نفسها مكشوفة امام إيران بشكل خاص، فلقد تخلت عنها أمريكا واعلن اوباما رسميا انه انحاز لإيران وان على العرب التكيف مع هذه الحقيقة، ولم يكن ذلك مجرد اعلان عام بل هو عمل ميداني نراه في العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين والسودان ودول الخليج كلها حيث تقف أمريكا داعمة لإيران لانها تنفذ اخطر مخطط وهو التقسيم الطائفي للاقطار العربية.
اذن النضال في هذه المرحلة بالذات ضد الانظمة المعرضة اقطارها للتقسيم ليس هو المهمة الاولى لحركة التحرر الوطنية العربية لان كل الجهود يجب ان تتوجه للعدو الرئيس الذي يدمر ويبيد الملايين وشرد الملايين من وطنهم، ويعرض عشرات الملايين للتعذيب والاغتصاب والموت اليومي، وهذا العدو الان هو إيران التي تحظى بدعم أمريكي- صهيوني كامل، بل ان إيران بتحديد ادق هي البندقية الاشد اذى وخطورة التي تستخدمها أمريكا لتدمير حياتنا ومحو وجودنا وازالة هويتنا وسد منافذ مستقبلنا، فبها تمكنت الصهيوأمريكية من تدمير العراق وسوريا واليمن والبحرين وافغانستان، وبها تتعمق ازمات مصر وتونس والسودان ولبنان وفلسطين. لهذا فان الف باء المنطق العادي وقوانين غريزة البقاء تفرض توجيه كل الجهود والبنادق العربية إلى إيران اولا وقبل كل شيء، فمن يريد دحر أمريكا يجب ان يبدأ بدحر إيران اولا.
وثمة سؤال مهم جدا وهو : هل لدى القوى الوطنية التقدمية العربية القدرة على خوض معارك متعددة في ان واحد مع واضع ومنفذ مخطط التأمر لتقسيم الاقطار العربية من جهة ومع الانظمة العربية من جهة ثانية؟ واضع مخططات التقسيم بمفرده يملك امكانيات اكثر بكثير من امكانيات كافة حركات التحرر العربية فاذا فتحنا معارك بصورة متزامنة مع الانظمة العربية ومع القوى الدولية والاقليمية المعادية لنا فاننا سنواجه حالة هزائم اكثر فضائحية من هزائم بعض الانظمة وحركات التحرر، تلك الطريقة في التعامل مع الاوضاع تعبر بدقة عن خلل بنيوي فادح يتمثل في تعطيل كل منطق سليم وجهل أو تجاهل قواعد وبديهيات اي فهم ستراتيجي صحيح لكيفية خوض الحرب أو التعامل مع الازمات الساخنة.
مهمتنا الاساسية الان هي الدفاع عن الوجود القومي ليس في فلسطين فقط، فهي لم تعد التهديد الوجودي الوحيد لنا، بل لكافة الاقطار العربية المهددة الان والتي تعد خطط تهديدها، فالعراق وسوريا وليبيا واليمن والبحرين تواجه تهديدا مباشرا وواضحا في خطورته واستثنائيته للكيانات الوطنية وللهوية القومية، تماما مثلما حدث ويحدث في فلسطين، اما السعودية فقد اكتمل الطوق حولها، فمن العراق طوقت وبدأت إيران بأنشاء قواعد عسكرية ومخابراتية من الانبار حتى البصرة استعداد للدخول المباشر في فترة ما إلى الاراضي السعودية، وتحت الخط العراقي يأتي التحدي الخطير للسعودية من الكويت والامارات وقطر حيث توجد فيها كتل ضخمة نائمة تابعة لإيران، ومن جنوب السعودية طوقت بالحوثيين الذين انشأوا بدعم أمريكي واضح قوة مقاتلة قوية اكتسبت خبرات خطيرة، وفي البحر الاحمر توجد البحرية الإيرانية وقواعدها في الجزر الارتيرية، وفي المنطقة الشرقية من السعودية توجد الغام خطيرة زرعتها أو غذتها إيران من الصفويين والاسماعيليين، وفي البحرين يتفجر لغم خطير جدا اذا اكتملت تفجيراته فانه سيكمل تطويق السعودية بحزام نار، وفي شمال السعودية اي لبنان وسوريا توجد إيران وحزب الله مع نظام بشار.
بعد الانقلاب الأمريكي والصفقة بين أمريكا وإيران فأن التحولات الجارية منذ عام 2011 تشكل تهديدا وجوديا شاملا للكيان الوطني السعودي وليس للنظام فقط، تماما مثلما لم يتوقف المخطط الأمريكي الصهيوني الإيراني عند تحقيق هدف اسقاط النظام في كل من العراق وليبيا واليمن وسوريا بل تواصلت الفوضى الهلاكة وحطمت البنى التحتية ومست التركيبات السكانية وهزت انماط السلوك وزرعت مخاوف الانتقام وتكرار الابادات الجماعية والتهجير الجماعي للسكان العرب.
فما العمل؟ هل يوجد عربي وطني واحد يملك الحد الادنى من الشعور بالمسؤولية القومية والوعي بحقيقة ما يجري يقول بان المهمة الان هي اسقاط الانظمة؟ ان هذا الطرح، وبغض النظر عن النوايا الداخلية لمن يقوله، دعم غير مباشر، واحيانا مباشر، لخطط نشر الفوضى الهلاكة سواء ادرك من يطرح ذلك أو لم يدركه، فالسياسة ليست شعارات فضفاضة بل هي موقف يحلل بعناية لفهم الوضع المعاش وليس المتخيل وتبني الدور المطلوب وضرورته الزمكانية، من خلال التحديد الدقيق لطبيعة التحدي ونتائجه ومن يستفيد منه ومن يتضرر. من هنا فان المواقف ليست نوبة عواطف ونزعات ثأر بل هي تقرير لمصير امة وتحديد لمستقبلها، ولذلك لابد من تحديد دقيق للاولويات وتجنب اي منزلق قد يضع فئة ما في صف واحد مع الاعداء المشتركين للامة كلها. يتبع.
ما هو الموقف المطلوب من السعودية؟ (1)
https://nashwannews.com/articles.php?action=view&id=9283