[esi views ttl="1"]
من الأرشيف

اصمتوا يرحمكم الله

هذا الشرق ملوث بغبار المعارك، وزعيق الساسة، وضجيج الشاشات، والربيع الأحمر المضرج بالدم. انفجار السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، والبراميل المتفجرة أصبحت لازمة حياتنا اليومية.

تصوروا كم سيكون هذا الشرق العربي جميلاً لو بلع حسن نصر الله لسانه، وخبأه في المخبأ الذي يختبئ فيه عندما يرسل خطبه العنترية، من مكان ما لا يعلمه إلا الله، تصوروا لو خلا هذه الشرق من تسجيلات الفيديو التي يرسلها أيمن الظواهري من مكان ما على هذه الكرة الأرضية لا يعلمه إلا الله.

تصوروا جمال الصمت الذي سيكون لو كف بشار عن التفلسف الفارغ، وخامنئي عن الدعوة الممجوجة للوحدة الإسلامية، والمالكي عن حديثه الفارغ عن ‘الطائفيين والبعثيين والتكفيريين’ في الأنبار والموصل وغيرهما من مدن ومحافظات العراق، التي يشن عليها حرباً طائفية واضحة! كم سنكون هادئين لو توقف عبدالملك الحوثي عن خطبه التي يقلد فيها سيده في ضاحية بيروت! كم سيكون الفضاء هادئاً لو كف البشير عن الحلف بأيمان الطلاق كل مرة يلوح لنا فيها بعصاه المعقوفة التي تشبه كثيراً سياساته العرجاء! وماذا لو كفت القاعدة عن تنزيل أشرطة الموت على اليوتيوب، وتوقف زعماؤها عن الظهور!

تصوروا كم سيكون هذا الشرق هادئاً لو كف الجنرالات عن تحريك مدرعاتهم في شوارع المدن وأعادوها إلى ثكناتها، وهدأ الناس في الشوارع، وعادوا إلى حياتهم الطبيعية! وماذا لو كف خطباء الجمعة عن أسلوب الخطابة المعتمد على قوة الصوت بدلاً من قوة الحجة؟
خلال ثلاث سنوات مضت، ضجت شوارع صنعاء والقاهرة وتونس بهدير الجماهير وضجيج الشعارات وأزيز الرصاص في كل مكان، دعونا لا نتحدث عن طرابلس ودمشق اللتين هدرت فيهما الطائرات بدلاً من الجماهير، فماذا لو هدأ هذا الضجيج؟

ماذا لو كف اللطامون، والبكاؤون على الحسين عن بكائهم بعد أكثر من 1400 عام من البكاء الذي لا يعد بكاء على الحسين بقدر ما هو بكاء على سلطة ضائعة، واستثارة لأحقاد دفينة عند الجماهير لتحريك قوة الجمهور لأغراض سياسية؟ ماذا لو توقفنا عن لعن التاريخ والجغرافيا، ولعن الأمويين والعباسيين، والنواصب والجن والإنس، ونبش التواريخ، واستعادة فصول صفين على يد مجاميع توظف المقدس في أسمائها من مثل ‘ثأر الله، وبقيت الله وحزب الله وأنصار الله’ وتفرغنا للتعايش والبناء بدلاً من إثارة الأحقاد في صفوف الناس؟

تخيلوا كم ستكون شاشتا قناتي الجزيرة والعربية جميلتين لو خلتا من مشاهد السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والانتحاريين الجوالين الذين يبحثون عمن يقتلون، فإن لم يجدوا أحداً فجروا أنفسهم ليذهبوا سريعاً إلى الله.

تصوروا كم سنكون سعداء لو كف ‘المحللون السياسيون’ عن تحليلاتهم، وكفت نشرات الأخبار عن تصدير العناوين الصاخبة في المقدمة، وكفت جوقة المغنين عن الزعيق، وهدأت هذه الحفلة الصاخبة من الرقص على الجثث والموسيقى الجنائزية الملوثة، في بلاد أصبحت مأساة من حجم إغريقي!

ماذا لو كف هذا المحلل الاستراتيجي عن تحليلاته واجتراراته لماضيه وكأنه لا يزال حامل السر، وصاحب السبق؟ ماذا لو ترك عادته في الحك المتواصل لأنفه، وذهب ليستريح بعد تاريخ طويل؟ وماذا لو كف شيوخ الشحن الجماهيري عن الظهور، وأتيح المجال لأهل الاعتدال ونبرات الصوت الهادئة؟ كم من أحلام سعيدة ستراود أجفاننا لو نمنا من دون أن نرى ساسة منتفخي الكروش والأوداج يصرخون في وجوهنا، وكأننا لسنا من طينتهم!

ماذا لو هدأ الجمهور الغاضب في شوارع المدن العربية الملتهبة من صنعاء إلى طرابلس، ماذا لو سكت بعد ان أنجز مهمته! ماذا لو صمتت المدافع عن السرد اليومي لحكايات الحرب في هذه المنطقة المفخخة بالصراخ والأحلام والفساد.

تصوروا كم ستصبح هذه المنطقة جميلة وهادئة، لو تخلصت البرامج الإعلامية الجماهيرية الصاخبة من اللكمات الصوتية التي يوجهها المتصارعون فيها إلى بعضهم أمام ملايين المتفرجين، تصوروا لو امتلأت شاشاتنا بأحاديث هادئة عن السلام، وكانت عناوين الأخبار ومانشيتات الصحف، فنية وثقافية وفكرية ورياضية المحتوى، بدلاً من هذا المحتوى القاتل الذي ينفجر على قلوبنا كل مساء.

يطل عليك أحدهم من برج عال ويقول ‘من أنتم؟…دقت ساعة الزحف… إلى الأمام…ثورة’، وينتهي في لحظة صخب سوريالية، مضرجاً بالدم والصخب والذهول، ويخرج آخر ويصرخ ‘سلاح المقاومة موجه ضد إسرائيل’، ويضيف وقد انتفخت أوداجه ‘اليد التي تمتد لسلاح المقاومة سنقطعها’، وها هو اليوم ينغمس في دماء السوريين حتى رأسه، وثالث صدع رؤوسنا بأحاديثه عن القومية العربية والبعث والأممية، ثم انتهى شعوبياً بيد طهران، ورابع يزعق وهو لا يزال يتدرب على شعار ‘الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل’، ثم يعب من دماء اليمنيين حتى ثمالته، وخامس يرسل أشرطة الفيديو من مخبئه متوعداً ‘الحلف الصليبي اليهودي’، ثم ينتهي في أحد مساجد المسلمين وقد فجرها على رؤوس أهلها. هذا الفضاء العربي يكاد ينفجر بما فيه من فقاعات صوتية عملاقة لوثت الهواء والذائقة، وصمت الآذان، هذا فضاء أقرب إلى أقاصيص الملاحم والحروب القديمة بين أشباح أسطورية لا علاقة لها بواقع الناس.

هذه الفقاعات الصوتية لوثت هذا الفضاء، أفسدت الذائقة، وضللت الناس.

هذه الضفيرة من الدين المسيس، هذا الشحن الطائفي، هذه الأفكار الثيوقراطية، ينبغي أن يعاد النظر فيها، لأنها أفسدت الدين والدنيا، بعد أن تحول بموجبها الدين إلى وسيلة في يد الساسة والمتطرفين والنائحين الذين يستعيذ بالله منهم الشيطان الرجيم، والذين يعيشون على جهل الناس في منطقة مفخخة بخطب حسن نصر الله وأيمن الظواهري، وبراميل بشار الأسد المتفجرة.

كل زعيم سياسي يرى أنه هو الصح، ولو صحت الدعوى لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، كل قائد ديني يرى أنه على الحق، ولو قامت الدعوى لمشى بيننا جبريل. نحن على مستوى ‘الخطاب’ مجموعة من الملائكة، ولكننا على مستوى ‘الفعل’ كتلة من النقائص والشرور.

والحق أن أسوأ من فينا هم الذين يمثلوننا اليوم، فلا أعتقد أن أحداً أسوأ من القاعدة إلا حزب الله الذي يستعمل المقدس في تسميته، ولو صح انتماؤه لله، لما كان له أن يوغل في دماء خلق الله بهذه الصورة. هؤلاء هم الذين يمثلوننا اليوم غصباً عن إرادتنا، بعد أن خطف أحدهم ميكرفون الإسلام وذهب به إلى أعماق الكهوف، وخطف الآخر هذا الميكرفون وهرب به إلى أحد السراديب.

يخيل لي أننا لن نهدأ قبل أن يغلق هؤلاء أفواههم، ويعلنوا الإضراب عن الكلام الذي يأتي هذه الأيام ملوثاً بالحقد والكذب والتضليل، ومضرجاً بدم كثير، وصخب كثير وفراغ لا معنى له.
تركز فلسفة الصمت في رياضة ‘اليوغا’ على تجميع قوى الذهن البشري، وتركيز أشعة المخ في بؤرة واحدة، لتشتعل المعارف الداخلية، وينبثق شلال من النور داخل الروح، ويصل الإنسان إلى مرحلة السلام الروحي الذي ترى بعض الفلسفات أنه لا يأتي إلا عن طريق الصمت والتأمل. ولذا يمضي رهبان الصمت مدة طويلة في ترويض النفس على الصمت والتأمل وممارسة (اليوغا)، وصولاً إلى حالة (النيرفانا)، أو حالة انبثاق (نور الروح)، وهي حالة السعادة الحقيقية التي ينشدها كل اللاهثين والصارخين والصاخبين الذين لوثوا أسماعنا وهواءنا وأمزجتنا بعقدهم التاريخية والحاضرة.
الصمت حكمة وقليل فاعله، هكذا قال لقمان الحكيم، وفي تراثنا الإسلامي أن أبعد الناس مجلساً من النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة ‘الثرثارون، والمتفيهقون والمتشدقون’، وفي الأمثال ‘إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب’، وبما أننا لم نستطع الحصول على ‘فضة الكلام’، فلم لا نبحث عن ‘ذهب الصمت’، في هذه البراري الملأى بالصارخين من كل حدب وصوب.

يحضرني هنا الحديث الشريف ‘من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت’. قليلاً من الصمت لكي نتيح الفرصة للتأمل، قليلاً من الصمت يرحمكم الله.

زر الذهاب إلى الأعلى