لا يحتاج المرء إلى شدة ذكاء ، أو فيض من حكمة، لكي يدرك ماذا تريد جماعة ميليشاوية مسلحة بسلاح مزدوج : بالأسلحة الثقيلة ، ومسلحة بادعاء حق الولاية «الإمامة» ، وتخوض منذ عشر سنوات حروباً مكثفة ؛ ست منها في مواجهة الدولة، وسلسلة الحروب المتواصلة منذ أواخر 2011، تخوضها لإخضاع المناطق القبلية مستغلة غياب الدولة كنتاج للثورة والمرحلة الانتقالية والأداء المتردد للسلطات الرسمية في مواجهة التوسع الحوثي.
في حروبها الأخيرة لإخضاع القبائل في حاشد وعمران والجوف وهمدان وغيرها من المناطق كانت الجماعة تركز على شرط واحد في اتفاقاتها التي أبرمتها في حاشد وغيرها من القُبل : شرط «الخط الأسود».
والمقصود به ضمان انتقال الجماعة في طريقها إلى العاصمة صنعاء على الزفلت «الخط الأسود» ، بجميع ميليشياتها وأسلحتها المتوسطة والخفيفة والثقيلة.
ذلك أن الجماعة الحوثية وإن كان يهمها السيطرة على قبائل الهضبة العليا باعتبارهم الضلع الثالث والمهم في مثلث الإمامة الزيدية ، إلاّ أن الهدف الرئيسي هو دخول العاصمة صنعاء.
تاريخياً يتشكل مثلث الإمامة من ثلاثة أضلاع. الضلع الأول هو المذهب ، وقد تمت استعادته من النخبة الشائخة المكونة من علماء الزيدية في صنعاء ، وأصبحت مرجعيته كاملة الآن في محافظة صعدة ممثلة بعبدالملك الحوثي كقائد سياسي ومرجعية دينية في نفس الوقت ؛ على غرار الولي / الفقيه في طهران.
الضلع الثاني هم أصحاب المذهب والآئمة من «آل البيت» ، وقد أجمعوا على الحوثي دون منازع من أوساطهم ؛ حيث إن معظم اقتتالات التاريخ اليمني كانت تتم على السلطة ؛ سواء بين أدعياء الإمامة ؛ أو بينهم وبين بقية اليمنيين.
الضلع الثالث هم قبائل الهضبة العليا. وقد كان دورهم التاريخي هو «عضلات الإمام» ، وجيشه البراني لإخضاع المتمردين على حكمه الجائر.
ومن الملاحظ أن الأئمة الزيديين كان بإمكانهم ، لو أرادوا ، أن يواصلوا نشر المذهب في مناطق اليمن كلها آنذاك ، غير أنهم قرروا التوقف في نقيل سمارة.
ذلك أن دخول اليمنيين كلهم في المذهب الزيدي لا يحقق هدفهم. فقد أرادوهم منقسمين.
قبائل الهضبة كمخزن تاريخي للقوة البشرية التي تستخدم كعضلات.
والبقية «كفار تأويل» يتم غزو مناطقهم ، ونهب أراضيهم ومحصولهم باسم المكوس والجبايات التي لها أول ، ولكن ليس لها آخر.
من هنا فإن التيار الحوثي يدرك أهمية السيطرة على قبائل الهضبة العليا ، لأن ذلك يمثل بدوره المعادل الموضوعي للسيطرة على اليمن الشمالي بالنسبة لهم.
أما اليمن الجنوبي فهو أكبر من طموحهم من جهة ، وأدعى إلى «التنازل عنه» بحسب مشيئة المصدر الإيراني الواحد لتمويل التيارين ، الحوثي ، وتيار البيض.
لا أكثر استفزازاً ، ولا أكثر مقتاً ، من أولئك المشتغلين على تبرير جرائم الحوثي، وتبرير زحفه باتجاه العاصمة صنعاء.
أسوأ ما يخوضه هؤلاء من حملات هذه الأيام هو قولهم إن من يدعو الدولة للقيام بدورها في إيقاف الحرب الطائفية التي أشعلها الحوثي ووقف زحفه نحو العاصمة ، وصفهم هذه المناشدات بأنها تريد الزج بالجيش في حرب جديدة ، «وتودف به» ، كما ودفت من قبل بالسلفيين في دماج وبيت الأحمر في حاشد!!
أولاً ينبغي الانتباه إلى أن الحرب قد قامت ومن أشعلها هو الحوثي الطامح للوصول إلى السلطة عبر العنف والتفجيرات والحروب.
والأهم من ذلك أن هؤلاء الواهمين المتغطرسين قد أصابهم الغرور والكِبْر نتيجة للتوسع الحوثي ، ولذلك يعتبرونه القوة العظمى في اليمن ، وأن على الدولة التسليم بهيمنته ، وأن تنسى دورها كدولة ، وتهدد الجيش اليمني بأنه سيلقى الهزيمة لو قررت الدولة مواجهة عنف الحوثي وتوسعه وزحفه نحو العاصمة.
الأهم من هذا وذاك الآن أن نزع السلاح من الميليشيات المسلحة وفي الصدارة منها الميليشيات المذهبية الطائفية، يعتبر شرطاً أساسياً لوجود الدولة وأحد أهم نتائج مؤتمر الحوار الوطني ، ولا تستقيم الدولة الاتحادية إلا به ؛ فكيف يمكن أن تذهب اليمن لإقرار الأقاليم في ظل وجود الميليشيات المسلحة والخارجة عن إطار سلطة الدولة.
لابد من أن تفرض الدولة نفوذها على كل شبر في اليمن قبل إقرار دستور الدولة الاتحادية ، وبدون ذلك سنؤسس لتفتيت الكيان الوطني ، بينما نعتقد أننا ذاهبون باتجاه بناء نظامه السياسي العادل ، ودولته الوطنية المدنية الاتحادية.
الحوثي وتياره وأوهامه أقل بكثير من أن يسيطر على اليمن الآن. وحتى إن أكمل سيطرته على الهضبة القبلية ، فإن المستحيل بعينه أن يسيطر على تعز وإب والحديدة ، حيث كان التاريخ الأسود لنظام الإمامة وتخلفه وجهالاته يمارس هنا بشكله الطائفي الفج والمتخلف.
إذا سيطر الحوثي على قبائل الهضبة كلها ، وهذا صعب وليس بتلك السهولة التي تشي بها سلسلة الانتصارات المفتعلة ، إن حدث فأمامه الدولة والجيش اليمني.
والتقاعس عن مواجهته الآن لن يؤدي إلى هيمنته وإمامته المتوهمة ، بل سيؤدي إلى تفتيت اليمن على أساس طائفي ؛ وإغلاق باب اليمن أمام الهضبة العليا ، لينعم بها الحوثي كيفما يشاء.
لابد من التفكير بصوت عالٍ في كل المناطق المحظورة ، حتى يدرك الجميع إلى أين نحن ذاهبون !!!!