سال حبر كثير في تشريح الحالة الحزبية، لأقلام رأت في الراهن السياسي مناخاً مؤاتياً، للإفصاح عن نوازع مكبوتة، ظلت أسيرة الترقب، للتعبير عن هذا المخزون المتفجر، في حنايا الذات الاعتراضية، وهي حالة يمكن فهمها في إطار العثرات والإخفاقات، التي لازمت المشروع القومي، وقادت إلى خفوت الدعوة القومية، وقمع الحريات وتراجع الأداء الاقتصادي، والتمييز هنا ضرورة تمليها طبيعة الخطاب في تناول الحالة، ودرجة المسؤولية التي يتحلى بها الكاتب توصيفاً، تحليلاً وتجاوزاً، ضمن سويات تتراوح بين النقد الهادف في معالجة الإشكالية وبين التناول العبثي للأمور، بما يوحي، وكأن ثمة خلل في تقدير أهمية وخطورة اللحظة، التي تعيشها الأمة بكل أطيافها السياسية وتشكيلاتها الاجتماعية، وطنية كانت أم قومية..
فالكتابات التي تناولت المسألة الحزبية، والانطباع المخادع الذي تتركه على صحف الإثارة العربية، تفتح الباب على جملة من المسائل الاستراتيجية، في حياة ومصير الحزب القومي، واستتباعاً، جوهر ومشروعية النظام في سورية، وهي مسائل حتى وقت قريب، كانت تتساوق ضمن حراك تكاملي، يستحيل تصور أحدها دون الآخر، المساس بالحزب مساس بمشروعية النظام... الفانتازيا الإعلامية التي تتم بمعزل عن مواقع القرار الحزبي وأصول التراتبية التنظيمية، توفر مناخات مواتية لمزيد من الإرباك الداخلي، كما وتعمل على إنزال القضايا المصيرية للأمة، وسورية تحديداً، إلى سوق التوقعات والتكهنات الافترائية.
والحال، أن ثمة رغبة في التطوير والتحديث، تعكس حرص القيادتين الرسمية والحزبية، للارتقاء بالسوية الجماهيرية إلى مستوى التحديات، التي تستهدف معقل الوعي القومي للأمة وبنيته التنظيمية، هذا التوجه، بغض النظر عما يمكن القول فيه، يشكل بارقة أمل في زمن الاختلال العقلي، الذي يجتاح أنظمتنا العربية، ويفقدها القدرة على تحديد اتجاهاتها خارج المخطط الأمريكي/الصهيوني.. يستحق قدراً من الحوار الجاد والهادف، للخروج من حالة السكون، التي تلقي بظلالها، على كافة البنى المؤسسية الرسمية منها والشعبية، وهو حوار ينطلق من تقدير دقيق لطبيعة اللحظة المدركة بكل أبعادها، وقراءة ناقدة، متجاوزة لمراحل سابقة في مسيرة الحزب، والانعطافات التاريخية التي عرفتها في تاريخها القريب.
وإذا كان الحزب بما يمثله من وعي متقدم للأمة، ومرآة تطلعاتها، وحامل مشروعها القومي، الراصد للمسارات الكبرى في حراك ونضال الأمة، فثمة مصداقية للقول بأن المنطلق الأساسي في البحث عن الإجابات الكبرى للإشكالية القومية، تبدأ بالحزب ذاته فكراً، سلوكاً، رؤيا، مرتكزات، تمثل كلها الأساس المعتقدي للإنسان العربي، والتي يجري اختزالها في ثلاثية الوحدة، الحرية، الاشتراكية، وهي ثوابت لا تقبل المساءلة، إلا بمقدار ما تنجز من مهام تفضي إلى تحقيق هذه الغايات.. المساءلة هنا، تخاطب الآليات والوسائط التي يعتمدها الحزب فكراً/تنظيماً، في الوصول إلى غاياته القومية، وهذا يعيدنا إلى جوهر الخطاب الحزبي، فما يثار من تساؤلات، حول الأداء الحزبي، والجدوى القومية من استمرار السائد من مفاهيم وعلاقات، ومدى مقاربتها للأهداف المرسومة في منظوماتنا الإيديولوجية، ومدى استجاباتها للتحديات والمخاطر التي تشكل حضوراً ضاغطاً على مختلف الصعد الفكرية والعلمية لإنساننا العربي، يستوجب وقوفاً ناقداً أمام جملة التساؤلات والتوجهات التي تخاطب الراهن الحزبي.
ثمة اتجاهات ثلاثة تتحكم بالساحة الفكرية المنصرفة للشأن الحزبي:
الاتجاه الأول: يدعو إلى إلغاء الفكرة القومية بما تمثله من حزب قومي، وتمظهرات قومية في علاقة سورية بالأقطار والقوى السياسية العربية الأخرى.
ويستند هذا الاتجاه، إلى جملة من المتغيرات والمعطيات، يأتي على رأسها: فشل المشروع القومي في تحقيق الغاية القومية منه، وهي قيام الدولة العربية الواحدة، تراجع نسب النمو على صعيد السويات المجتمعية والاقتصادية كافة، تنامي ظاهرة الاستحواذ السلطوي بما يحمله من تكميم الأفواه، وحرمان المجتمع من ممارسة حقوقه الإبداعية، غياب تكافؤ الفرص وتفشي ظاهرة الامتيازات السلطوية، مع بروز طبقة طفيلية، تعكس هوة واسعة بين من يملك الثروة وبين من يفتقر إليها، إلى جانب انتشار ظاهرة الرشوة والفساد التي تعيق نمو المجتمع.
هذا الاتجاه يستقوي بالتحولات السياسية العاصفة بالمنطقة والتي أوصلت أمريكا لأن تصبح جاراً مقلقاً للدولة السورية، وانعكاس ذلك على الوضع في العراق من تدمير وتفتيت مجتمعي، واعتبار ما يجري على الساحة العراقية نموذجاً متقدماً لمصير الأمة المرتقب.
منطلق هذا التيار يقوم على قاعدة: "شيء أفضل من لا شيء"، أحد إفرازاته المباشرة هو خروج القوات السورية من لبنان وبطريقة غير مستحبة، كما عبرت عنها ونقلتها وسائل الإعلام العربية والدولية.
الاتجاه الثاني: يدعو إلى الحفاظ على الحزب، لكنه يولي أهمية قصوى للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، ويدعو إلى مزيد من الانفتاح، وتقليص الدور السلطوي الأمني على النشاطات المجتمعية، سياسية كانت أم اقتصادية.
تتضمن دعوة هذا الاتجاه إفساح المجال أمام كافة القوى بمن فيها الأحزاب والتيارات الدينية والعرقية، كي تمارس نشاطها في ظل قوانين ونظم يتم الاتفاق عليها من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عام..
الاتجاه الثالث: يشتمل في معظمه على الحزبيين ومن يتعاطف مع الحزب، أو ذوي الميول البعثية، بما فيها القوى السابقة التي لسبب أو آخر، تم إقصاؤها عن الحزب، يرتكز هذا الاتجاه في دعوتها الإصلاحية على محورين أساسيين:
1- ضبط العلاقة بين الحزب والسلطة، وتحديد مجال حركة كل منهما، وفق ما تقتضيه المضامين البرنامجية للحزب، وبما يقلص تدريجياً من آثار ومظاهر الاختلالات التي سادت الحقبة الحزبية، طوال الفترة السابقة من عام 1970 حتى اليوم.
2- تنظيم العلاقة بين القومي والقطري، بما يجنب سورية تبعات الضغوط الخارجية التي تستثمر من قبل القوى المعادية وقوى الداخل العربية المحافظة، باعتبارها مساساً وتدخلاً بالشؤون الداخلية للأقطار العربية، وهي حالة كما نعرفها تتقاطع مع التوجيهات والسياسات الغربية، التي ترى في الاقتراب العربي من بعضه البعض تهديداً مباشراً لأمنها ولمصالحها القومية.
على صعيد المنظمات القومية، يدعو هذا الاتجاه إلى تمكين هذه المنظمات من التعبير عن سياساتها وتطلعاتها، وفق ما تقتضيه الحاجة الداخلية لكل ساحة على حدة، والذي يخضع لأولويات العمل المشمولة في برامجها الوطنية، مع الحفاظ على استقلالية كل منظمة في التعبير عن ولائها، ومعتقدها القومي من خلال صيغ ثقافية تنظيمية تمكّنها من التفاعل الحر والمثمر مع المنظمات القومية الأخرى، ويتم ذلك عبر مؤتمرات قومية، لقاءات مشتركة، أو منتديات قومية، تفسح مساحة حوارية تغني الفكر القومي وتنشر ثقافته، كما وتوطد الروابط المعرفية القومية للرفاق، وتعمل في الوقت ذاته على حسم وتذليل الصعاب التي تواجهها كل منظمة على حدة.
***
مع الإقرار بأحقية كل اتجاه في التعبير عن مكوناته الفكرية، وحقه في بلورة التصور المناسب، للخروج بالحزب والوطن من أزمته الراهنة، نميل إلى اعتماد التوجه الثالث الذي يؤكد على أهمية بناء الحزب، واكتسابه الصحة والصدقية اللازمتين، لممارسة مهامه بالشكل المطلوب، مع التأكيد على جدوى ما يتضمنه الاتجاه الثاني من نشر الحريات والانفتاح على القوى الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. لكن ما يستوجب التأكيد عليه هو أن صحة الحزب وعافيته في استرداد دوره التاريخي، هو وحده الكفيل بتوفير مثل هذه المتطلبات، والقاعدة تقول: "فاقد الشيء لا يعطيه"، فالديمقراطية إن لم تتم ممارستها على صعيد الحزب، تكون سلعة نادرة، يتعذر توفيرها للغير، وكذلك الأمر بالنسبة للقضايا الأخرى السياسية والأمنية.
هذا لا يعني بأي حال، تجميد كل شيء في انتظار الإصلاحات الحزبية، بل يمكن لهذه الأمور، أن تأخذ شكل التنفيذ المتوازي في اعتماد السياسات الانفتاحية من جهة، وتعزيز الإصلاحات الحزبية من جهة أخرى، مع ضرورة توفر قدر عالٍ من المسؤولية الحزبية، لجهة اكتسابه للمعارف المطلوبة واستعادته لحيويته وصدقيته الجماهيرية، التي تمكنه من مزاولة نشاطه في تكريس هذه الحقوق جماهيرياً بشكل أفضل ومتكامل، كما تمكّن الحزب من تطوير قدرات حوارية هادفة لضبط العلاقة الشائكة بين الحزب والسلطة، وتوفير المناخ الديمقراطي لحمل حوار مجتمعي هادف مع الأحزاب والقوى الاجتماعية.
وإذا ما انتقلنا في تناولنا للحالة الحزبية من العموميات، للخوض في الخاص، وتفاصيل تشريح الجسم الحزبي، نجد، وفيما يعكسه تاريخ الحزب منذ نشأته، أن قصوراً ملحوظاً، مع تطلعاتنا المستقبلية لإنجاز مهامنا القومية وبناء دولتنا الواحدة.
بعض هذه الإشكالات جرى ذكرها في المقدمة وفي تشخيص الحالة العربية... والبعض الآخر يندرج ضمن المفاعيل الأساسية للحراك الحزبي، والتي يمكن حصرها في:
(1) الأداء الحزبي.
(2) المسألة الوحدوية.
(3) قضية الحرية.
(4) المسألة الاشتراكية.
1- الأداء الحزبي:
لا مجال يذكر لإنجاز حزبي يمكن اعتماده معياراً في قياس الحركة الحزبية، باعتبارها الضابط لعلاقة الحزب بالواقع، كما أن غياب العلاقة الصحية بين الرفاق، تترك انطباعاً متراجعاً لمعنى الحياة الداخلية للحزب، هذه الأمور جرى التنبيه إليها في العديد من الاجتماعات، لكن دون جدوى، بقيت الحالة تستجر مزيداً من التجاذبات الحادة على كافة السويات الحزبية، كان من جراء ذلك أن غابت المهمة الحزبية وتفارقت مسألة الفكر التنظيم، وتدنت السوية الثقافة، وتراجعت المعلومة الحزبية/السياسية، وأهم من ذلك بروز حالة غاب عنها وحدة الموقف الحزبي. يبدو الوضع أحياناً وكأن ثمة أحزاب بوجهات نظر مختلفة يجمعهم حزب واحد، كان طبيعياً أن ينعكس ذلك ضعفاً عاماً في الأداء الحزبي، حيث تحول الاجتماع إلى أداءٍ روتيني، بيروقراطي، مكتبي، يفتقر المبادرة والروح الإبداعية.
أما مسألة النقد والنقد الذاتي، فحديث يطول أمره حيث أضحى مجرد ذكرها يثير الكثير من الامتعاض والاعتراض، ومع غياب الديمقراطية الحزبية، تحول الاجتماع الحزبي إلى ثكنة عسكرية تجمع آمراً ومنفذاً، مدعوماً بأغلبية لا تقيم اعتباراً لجوهر القضايا المدرجة للمساءلة والنقاش، لقد ساعد على انتشار هذه الأجواء غياب مبدأ التوصيف الحزبي، القائم على:
(أ) الكفاءة العلمية.
(ب) القبول الجماهيري.
(ج) التاريخ الحزبي.
وهي شروط جرى استبدالها بأخرى مغايرة أفسحت المجال لبروز ظاهرة المحسوبية والاستزلام، وما يترافق معها من ولاءات فردية وجهوية ومذهبية. كما كان لاستمرار هذا الأمر أثره في حرف الحزب عن وظيفته الأساسية في بناء الكوادر القيادية الحزبية والمجتمعية.
ولأن المرض وحده الذي يعدي، كان لهذه الحالات أن وجدت طريقها إلى المنظمات القومية في ساحات الوطن العربي، حيث تنمّطت وأضحت تشكيلات مصغرة للأمراض والسلبيات المتسيدة والمتفشية في المركز، مما أفضت بدورها إلى توقف العطاء الثقافي/الفكري على الصعيد القومي للحزب.
ومما يزيد الأمر تعقيداً، انتشار ظاهرة الدروشة في الصفوف الحزبية، والتي تسيء إلى الصبغة العلمانية للحزب، وتنذر بكوارث مستقبلية أقل ما يمكن القول فيها: هو إن ثمة حركة انقلابية هادئة تتحرك في الإطار الحزبي للانقضاض والاستيلاء عليه، ولم يبق سوى تحديد الفاصل الزمني لذلك...
2- المسألة الوحدوية:
تتوضح الصورة الحزبية أكثر، متى أدكنا الاخفاقات والعثرات التي واجهت الجهود الحزبية والرسمية، في إنجاز مشروعنا الوحدوي، وبغض النظر عن المبررات والمسوغات التي يمكن الخروج بها لتبرير هذا الإخفاق، وهي أمور على كثرتها لا تفسر الراهن الحزبي، لكنها تضعنا على الأقل، في مواجهة المسؤولية التي طالما عمدنا إلى تكريسها أدباً وشعارات وأسقطناها مهاماً وممارسة.
من المنظور العام تبدو الأسباب التالية عناوين لقضايا تستوجب المراجعة الناقدة لجهة الوسائل والآليات التي ظلت بمعزل عن التفعيل الحزبي:
1- غياب الرؤية الحزبية الواضحة للتحقق الغائي لمسألة الوحدة العربية التي ما تزال أسيرة العواطف والنوازع الغريزية لدى المواطن العربي، كما أن الحزب لم يستفد من التجارب الوحدوية المتعددة التي باءت جميعها بالفشل، للخروج باستنتاجات تمكّنه من وضع أسس موضوعية، تملك قدراً من التحقق المستقبلي، في تهيئة الظروف والمناخات المناسبة لقيام الوحدة.
2- إغفال الديمقراطية والمشاركة الشعبية كطريق لتحقيق الوحدة العربية، وما يترافق معها من إقرار بحق الاختلاف، واحترام مبدأ الحوار وإقراره وسيلة للوصول إلى غاياتنا الوحدوية، فالوحدة تبقى مفرغة من مضامينها، ما لم يقم الحزب بخلق جيل حزبي يؤمن بالديمقراطية القائمة على مبدأ الحوار والاعتراف بالآخر.
3- ضبابية العامل السياسي، وضعف البناء التنظيمي الذي يعبّر عن حيوية هذا العامل، واستبداله بمزيج من الحراك العشوائي، الذي يعتمد القراءات الشكلية للحدث السياسي، دون جهد في متابعته، وإدراك التوجهات والنتائج التي يتمخض عنها، كما غاب عن هذا العامل توفر الشروط الضرورية والمناخ السياسي الملائم للعمل السياسي الجاد، والذي يقوم على حرية سياسية يدخل ضمنها إصدار قوانين أحزاب تنظم نشوءها وأداءها.. نتج عن ذلك أن تحول العمل السياسي إلى مستلحق للمبادرات الرسمية للنظام العربي.
4- إغفال دور المسألة الاقتصادية في البناء الوحدوي، فتحقيق الوحدة العربية يكون عن طريق تقديم نموذج يغري بالاندماج والالتحاق، لا الخوف والتقوقع، وهذا يتطلب بشكل منطقي، أن تهتم كل دولة عربية بتنمية اقتصادها، وتلبية حاجات مواطنيها، وبدءاً بأحوال معيشتهم مروراً بتوفير وسائل العلم والمعرفة، والانفتاح وتطوير الذات، وصولاً إلى الشفافية والمحاسبة، وانتهاءً بتداول السلطة والتعددية وقبول الآخر.
5- إقصاء العامل الاجتماعي/الثقافي للمجتمع العربي ودوره في بلورة مفاهيم وحدوية، بعيداً عن المؤثرات الستاتيكية لمقولات تفتقر إلى الحد الأدنى من الواقعية والتصور العملي في التحقق الوحدوي، وهي مسألة تُدرك صعوبتها متى أخذنا بعين الاعتبار الأمور التالية:
(أ) غلبة المؤثرات الخارجية في صياغة العقل العربي، وقدراته التعبيرية عن مفاهيمه لقضاياه الخاصة والعامة، ومن ضمنها مسألته الوحدوية.
(ب) اتساع الهوّة بين الطبقات، مع انزياح واضح لتمركز الثروة بيد القلة من المسؤولين والمنتفعين العرب، وحرمان الغالبية العظمى من الحد المقبول للحفاظ على كرامة الإنسان العربي، ينعكس ذلك على النخب العربية التي تجد نفسها أقرب إلى مصادر الثروة منها إلى مصادر الثقافة، يترافق ذلك مع اتساع مخيف لدائرة الفقر والجهل بين العامة من الناس، بحيث يتعذر الوصول إلى أساس مفهومي مشترك للوحدة، مع عدم إغفال الدور المتنامي للثقافة الدينية ومحدودية فهمها لقضية الوحدة.
(ج) بروز ظاهرة الاغتراب بين الأجيال الناجمة عن مدخلات قسرية لثقافة العولمة، ضمن أشكال ومظاهر استلابية، تبهر الصغار، وتدفع بهم نحو فضاءات تقطع مع موروثهم التقليدي، بينما يتنامى نزوع ارتدادي لدى الأجيال السابقة يتوزع بين التشكيك بقضايا العولمة والرفض المطلق لإفرازاتها، وهي في كلا الحالين تجد نفسها مضطرة للتعامل مع المنتج العولمي، لكن دون قدرة على استيعابه وتبيئته ضمن مكونها الثقافي، مما يقود إلى اتساع الهوة بين الأجيال، واختلاف المصادر التي تشكل وعيهم بذاتهم وبمحيطهم الاجتماعي..
هذا على الصعيد الحزبي، أما على الصعيد العربي، فلا يوجد ما يشير إلى جهد منهجي مدروس لبناء منظومة فكرية اقتصادية/اجتماعية متكاملة، تعكس الرغبة الجادة في التأسيس لمشروع وحدوي، وكل ما جرى من تقاطعات آنية في تاريخنا القريب، يمكن ترجمتها كمؤشرات لعمل وحدوي، تمت خارج وعينا الجمعي بالمسألة الوحدوية، لكنها سرعان ما تلاشت وتراجعت إلى مواقعها السابقة (حرب 67-73)، وكذلك الجهود الوحدوية المتعددة الفاشلة التي تركت ندوبها على الجسم العربي، ولم تؤت الثمار المرجوة منها.
المثل الحي الذي لا يزال ماثلاً أمامنا هو الجامعة العربية.. فالحديث عنها، كإطار سياسي جامع للعرب، وبغض النظر عن الحقن المنشطة لإحيائها وتفعيل دورها في تحريك العمل السياسي العربي يبقى دون المستوى المطلوب، إذ ما تزال أسيرة التجاذبات الجهوية لأقطار عربية عاجزة، لا ترى في العمل الوحدوي سوى مساساً بأطماعها وإطاراً للتنفيس عن أحقادها وغيرتها من بعضها البعض، في هذا الصدد.. علينا ألا ننسى دور العامل الأجنبي في تسييره لشؤون هذه المؤسسة وتحكّمه بالنتائج المتوخاة للجامعة العربية.
لكن ما يؤسف له، هو أن العرب يحققون قدراً من التضامن العربي، في محافل دولية كالأمم المتحدة، أو المنظمات الدولية الأخرى أكثر مما يحققون في البيت العربي الواحد.. الجامعة العربية.. وكأن الخيار العربي محكوم بعقدة النقص الخارجي.. هذه مسألة تستحق الاهتمام كما تستحق دراسة إمكانية تطويرها.
البديل يكمن في التفكير جدياً بتأسيس تيار قومي يتشكل من كل أطراف العمل الوطني والقومي – مؤتمرات قومية بمختلف مستوياتها، منتديات ثقافية/فكرية تنظيمات وقوى المجتمع المدني – ضمن صيغة برلمانية شعبية تمارس نشاطها في الضغط والتأثير على حكومات مجتمعاتها، وبما يحقق قدراً من التضامن العربي، ويحد من تمادي النظام العربي في التنصل والتحلل من مسؤولياته القومية.. ويمكن الاتفاق لاحقاً على برنامج هذا التيار ومفاعيله التنظيمية مع القوى والأطراف المعنية بالأمر.
3- قضية الحرية:
أفقدت الممارسات الخاطئة الحرية بعض ألقها وفاعليتها، وعكست حالة من الملل في قواعد الأحزاب وفي الشارع، مما أفسح المجال لتنامي قوى التيار الإسلامي على حساب التيار القومي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أدبنا الحزبي مليء بالمعاني الدلالية والاشتقاقية للحرية بشقيها الفردي والجماعي، وهي مسألة تحتل من حيث الأهمية مكاناً متوازياً مع القيم الحزبية الأخرى كالوحدة والاشتراكية.. لكن ذلك لم يمنع من بقائها عالقة بين النزوع الفردي، والتخوف من تطبيقها الاجتماعي، مما أدى إلى اختزال مسألة الحرية ضمن مفهوم أحادي مبتسر، حمل معنى التحرر من الآخر الخارجي تحت مسميات الاستعمار، الهيمنة، والتدخل، مع إغفال متعمد للسبق الدلالي المتمثل في تكريس الحرية قيمة ثقافية في الوعي المجتمعي، كان من نتيجته أن تمت مقايضة التحرر من الخارجي بالاسترقاق الداخلي، وهي حالة تفسر إلى حد كبير درجة الخلل القائم في المعادلة الإشكالية بين الحرية كوعي بالذات وبالوجود، والحرية كتعبير ممارساتي لهذا الوعي.
مطلوب في هذه المرحلة أن يعنى الحزب بتخليق مفهوم متقدم للحرية، يتناسب ويستجيب لشروط الداخل والمحيط، ويسهم في إغناء السوية الإنسانية للفرد، كما ويكرسها قيمة ثقافية يستمد منها ثقته وقدراته الإبداعية.
4- المسألة الاشتراكية:
يعمد البعض إلى التجريح بالاشتراكية، من حيث اعتبارها وافداً دخيلاً على ثقافتنا القومية والإسلامية، ربما لقلة فهم أو إدراك لحقيقة الاشتراكية، كفلسفة حياتية في مواجهة طغيان التوجه الليبرالي العولمي، الذي يسقط عمداً كافة المعايير الإنسانية في تراثنا الحزبي، وهي أمور لا نتفرد وحدنا بالتمسك بها، كثوابت مبدئية في ضبط علاقتنا بمجتمعاتنا وبمحيطنا الإنساني، بقدر ما تتشارك معنا كافة القوى التقدمية والأنظمة المحبة للسلام.
تأخذ الاشتراكية وضعها الصحيح متى أدركنا حقيقة الأطماع التي تهدف إليها الليبرالية الجديدة المتدثرة برداء العولمة، والمتساوقة مع تعريفات تخترق القواعد القانونية والدولية المتعارف عليها، ضمن استخدام مفرط للقوة في فرض إرادتها الوحيدة وغير القابلة للنقاش والمساءلة، إما معنا أو ضدنا، هكذا تقاس الأمور بالمعيار العولمي الجديد.
ولعل بعض الأرقام والإحصائيات التي تخرج بها الدوائر الغربية، من خلال رصد المسار العولمي، توضح كثيراً طبيعة الاختلالات التي تعاني منها مجتمعات الدول النامية، كما وتوصف الأبعاد الحقيقية للممارسات الاستعلائية في نهب ثروات العالم وقمع إرادة شعوبه، تحت مبررات واهية لشرعنة هيمنتها، مثل محاربة الإرهاب وضرورة القبول بقيم ومبادئ النظام الدولي الجديد، والمقصود بها – حصراً - قيم ومبادئ الإدارة الأمريكية ذاتها.
لا شك أن ثمة خلل في إدارة شأننا الاقتصادي، أفرز حالة من الاحتجاج المتصاعد لدى الغالبية من الناس المتضررين من ممارسات أساءت إلى معنى ومضمون القطاع العام، وهو ما ينصرف في المفهوم العام إلى الاشتراكية، رغم تشارك العديد من الأنظمة بما فيها الغربية ذاتها بامتلاك هذا القطاع، الفارق هو في اختلاف الأداء الإداري، وامتلاك الوسائط والآليات الإشرافية والرقابية الضامنة لحسن إدارة هذا القطاع.
في مجتمع يفتقر إلى الثقافة الاقتصادية وتحديداً ثقافة الثروة باعتبارها عنصراً حيوياً في بناء وتطوير المجتمع، تتموضع الدولة في صدارة القرار الاقتصادي، ليس باعتبارها مالكاً بل مديراً له، وهي بذلك تفسح هامشاً لنشاطات قطاعية مختلفة ومتفاوتة في قدراتها الاستثمارية والانتاجية، تعمد إلى تحقيق تكامل في الأداء الاقتصادي العام.. هذه أمور بديهية في ألف باء الاقتصاد، الأهم فيما يعنينا هو غياب الثقافة لقطاعي الاقتصاد والثروة عن الناشطين في هذين المجالين وهو ما يستوجب الحذر منه، حيث يصبح المغامر والمتسلط ومنتهزو الفرص هم القياديون الرئيسيون في حياتنا الاقتصادية، وواجهات تعاملنا مع الخارج، سيما وأن قوانينا وتشريعاتنا الاقتصادية لم ترتق بعد إلى المصاف والمعايير المتعارف عليها دولياً، في وضع كهذا يصبح الوطن والمواطنون مواد قابلة للبيع والشراء في أسواق البورصات العالمية.
هذا تحديداً ما تريده الإمبريالية العالمية التي هي نفسها لا تتورع عن اختراق قوانينها ومبادئها متى تعارضت مع مصالحها القومية، ولقد دللت أحداث ما بعد الحادي عشر من أيلول 2001 على حقيقة السياسات الخطيرة التي تعتمدها الإدارة الأمريكية في حماية ما تعتبره مصالحها القومية، ضاربة عرض الحائط بكل النظريات والأفكار التي تقوم عليها الليبرالية ذاتها، وهو ما لاحظناه في مثل هذه الأحوال من تحميل لقراراتها الاقتصادية مضامين سياسية بحتة، بغرض فرض هيمنتها وسيطرتها على الأسواق العالمية، مما حدا بالكثير من عمالقة الاقتصاد الليبرالي إلى التحذير من مغبة هذه السياسات، والدعوة إلى مراجعة فورية ناقدة لمفاعيل النظام العولمي، بهدف ترشيده وإعادة التوازن إلى ثنائية العلاقة بين النشاطين العام والخاص، مع تأكيد خاص على دور الدولة الضابط والناظم لهذه العلاقة في مجتمعات الدول النامية.
هذه الدعوات التي ما تزال رهينة التجاذبات في ردهات المؤسسات الاقتصادية الكبرى، لا تسقط حقيقة الميل المتزايد لدول العالم الثالث نحو التحرر من قيود السياسات الليبرالية التي فشلت في تقديم الحلول الناجعة لاختلالاتها الاقتصادية، وهو ما قاد إلى مزيد من التشوهات المجتمعية في صورة اتساع الهوة بين من يملك ومن لا يملك، وازدياد رقعة الفقر وتراجع الأداء الاقتصادي، وتنام مذهل للعجز في موازين علاقاتها التجارية لصالح الدول المتطورة.
أكثر من ذلك يذهب بعض المفكرين الاقتصاديين إلى تمكين الدول ذاتها سلطة ومجتمعات مدنية، من التعبير عن مصالحها الوطنية بمعزل عن الإملاءات الخارجية لمؤسسات العولمة: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة العمل الدولية.
كما أن عدداً كبيراً من دول العالم الثالث بدأ في تبني سياسات إنمائية تقوم على أولويات محلية ورؤى مطابقية توفر قدراً من التعامل الحر مع هموم وقضايا الداخل الوطني.
ولعل ما ذهبت إليه سورية من تبنٍ للمسألة الاجتماعية يؤشر على درجة الحرص الذي توليه للعامل الاجتماعي في بناء اقتصاد متوازن، يراعي الكرامة الإنسانية، ويفسح المجال واسعاً أمام إسهامات القطاعات الأخرى في البناء الاقتصادي.
خلاصة القول، إن ليس ثمة نمط واحد للنهج الاشتراكي كما يروق للبعض، بل هناك عديد من المفاهيم والمضامين التي ترتبط وحاجة كل مجتمع، يتجلى ذلك في النماذج المختلفة للتطبيقات الاشتراكية في العديد من دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة ذاتها، وهنا يبرز الوجه الإنساني للاشتراكية من حيث ارتباطها بالعامل الاجتماعي كقيمة إنسانية، لا يمكن استبدالها أو إخضاعها لمعايير ربحية محضة، وهي على عكس الليبرالية الأمريكية لا تقبل مقايضة الصالح العام بمصلحة الأفراد.