من الأرشيف

العربي الجديد

في نهاية السبعينيات، ظهر آخر مرة، اختلفت الروايات حول سر اختفائه، قيل إنه اختطف في بيروت، من دون تحديد هوية الجهة الخاطفة، فما يعرف في بيروت سوى الضحايا.

وروى بعض آخر أنه شوهد مع رفاق له في الجزائر، يبكون ضياع أحلامهم، في ليلة لا تشبه الليالي. وهناك حديث عن اعتقاله في دولة خليجية، بعد مظاهرة مناهضة شُتِم فيها السادات.

والاعتقال، وليس المظاهرة، كان تعبيراً عن الموقف الرسمي الحقيقي من "كامب ديفيد"، المحطة المفصلية التي أنهت العداء العربي لمصر، بعد عقود من رفض مشروع استقلالها وسيادتها، ولا حاجة إلى الحديث عن مسرحية المقاطعة بعد ذلك!.

من كان يعرف عبد الله جيداً، فَرِح لغيابه، فهذا رجل من طينةٍ لا تقبل الذل، وقد ازدهر عقب رحيله المفاجئ، كيف لمثله أَن يعيش في ظل الهزيمة، صحيحٌ أَنه لم يشهد انتصاراً حقيقياً منذ ولادته، وكل ما مر به لم يكن سوى هزائم متلاحقة، هزيمة تنجب أُخرى، لكن قوى الشر مجتمعة، من داخل البلاد وخارجها، من أَبناء المشروع القومي، ومن أَعدائه، لم يكسروا عبد الله من الداخل، لم يهزموا أَحلامه، لم يستطيعوا تغيير قناعته الراسخة.

كان عبد الله عربياً حد الثمالة، فلسطين قضيته الأساسية، لأنها لا يمكن أَن تكون غير قضيته، ولأنها القضية العادلة، ولأن كل الحكايات التي رواها له أهله في طفولته، عن "المراجل" و"النخوة"، والتي أدّت إلى موت أحد أجداده على فراشه، حسرةً على انتهاك الأعداء كرامة جيرانه في غيابه، لا يمكن أن تجعل من عبد الله، "أخو فلانة"، رجلًا يستطيع التعايش مع هذه الجريمة البشعة، والتي شاءت المصادفة، وحدها، أن يدفع الفلسطينيون ثمنها الأكبر.

في الزمن الخسيس الذي حلَّ بعد رحيله، أَصبحت الحياة لا تطاق، تحولت فلسطين والعروبة وأحلام الاستقلال والثورة في وجه الظلم مسائل "قومجية"، مثيرة للسخرية، بات الاعتدال في وجه العدو أنموذجاً في الصالونات الثقافية. وهذا الاعتدال الطافح لم يجد طريقه إلى أبناء الوطن، نحن معتدلون فقط في وجه إسرائيل والمشروع الأميركي، ومتسامحون حد التواطؤ مع الاستبداد، ومتطرفون بلا حدود ضد قضيتنا، والدولار سيد الموقف، تحكمنا براميل النفط في العالم العربي، وشهدنا ولادة نظرية حق العدو في الحياة والوجود، نحن الذين تجاهلنا حق الضحية في ذلك، وازدهرت النظريات المصاحبة لحقوق الأقليات، بتزامن عجيبٍ مع ازدراء حقوق الأكثرية .. كان زمناً فاسداً بحق.

من شاشة التلفزيون، أَطل مجدداً، من تونس والقاهرة وصنعاء ودرعا وبنغازي، استضافته القنوات الإخبارية، وكان يحمل اسماً جديداً في كل مقابلة، ولباساً مغايراً، وشعاراً، لم تخطئه عين العدو، مهما حاول أَن يتخفّى، أَدركت أَجهزة الاستبداد العربية، ومراكز صناعة القرار في تل أبيب، وواشنطن، والتي شكلت، لاحقاً، مركز عمليات الثورة المضادة، أَن عبد الله عاد مرة أخرى، لكنه عربي جديد، غير الذي كانت تطارده من سنين، مناضل بوعي، مؤمن بحق، مدرك لحجم الجريمة التي ارتكبتها الأنظمة القومية في حقه، فلا شعار ولا استغلال.

تشكل الديموقراطية القائمة على العدالة والمساواة والهوية العربية الجامعة طريقاً وحيداً لنيل حقوقه، فلا مذهب، أو طائفة، أو عرق، يمكن أن يستوعبه.

وعبد الله العربي الجديد، على الرغم من الضربات الموجعة التي يتعرض لها هذه الأيام، تجده غير مبال. فما قاومه، على مدى سنين، يجعله فوق الأجهزة والمثقفين والصحافيين، فوق الجميع، يسير بخطىً واثقة نحو مشروعه الذي لا يموت.

زر الذهاب إلى الأعلى