من الأرشيف

اليمن… شيء من اللعب

يحلو للفرقاء السياسيين في اليمن في أحيان كثيرة أن يلعبوا، اللعب هوايتهم المفضلة، وهو سبب بقائهم في السلطة، وسبب بقاء بلدهم في الأزمة.

لا يستطيع أي منهم أن يفخر بمنجز تاريخي منذ تحقيق الوحدة اليمنية، وحتى هذا المنجز جاءت به الظروف التي هيأت انهيار الاتحاد السوفييتي. منجزات ساسة اليوم تدور حول تسجيل الأهداف في مبارياتهم العبثية، وكل أهدافهم تهز للأسف بلا استثناء شباك الوطن الذي يلعبون في ميدانه.

ليس اللعب عيباً، لكنه كذلك عندما يكون في الزمان والمكان غير المناسبين، وعندما تكون وسيلة اللعب غير مناسبة كذلك.

لعب النظام السابق والحوثيون في ستة أشواط من الحرب (تصوروا أن يلعب الناس بالرصاص) كانت اللعبة ممتعة للاعبين الكبار، لأن أموالاً طائلة كانت تتدفق على جيوب مدربي وإداريي الفريقين، وقياداتهما في صنعاء وصعدة.

كان لعباً دامياً تضرجت فيه ساحة اللعب بكثير من الدماء والبكاء والدمار.

(تصوروا أن تكون وسائل اللعب أرواح الناس)، هذا بالفعل ما كان يحصل، من دون أن يعلم اللاعبون الصغار قواعد اللعبة التي كانت محصورة بين قادة الفريقين، أسفر اللعب عن آلاف القتلى والجرحى والمعوقين، أسفر عن تشريد مئات الآلاف من منازلهم التي هدمت في صعدة وغيرها على وقع ضربات الأسلحة وصرخات الموت لأمريكا وإسرائيل.

كان اللاعبون يستريحون بين كل مباراة وأخرى، وكانت تتم عمليات تنقل مستمر بين اللاعبين في الميدان والاحتياط. كان النظام السابق يستثمر في الدماء، وكان الحوثيون يستثمرون في الشعارات، وكان خصوم النظام يستمرئون اللعب بغية انهاك الرئيس السابق، للوصول إلى ما تم التخطيط له وتنفيذه في مطلع 2011 مع اندلاع ربيع اليمن في صنعاء.

وبعد فبراير/شباط 2011، وامعاناً في اللعب ترك صالح صعدة ليركز على صنعاء، فانقض الحوثيون عليها زاعمين أنه نصر ساقه الله إليهم، وهجروا كل من وقف مع القوات الحكومية ممن لم يتم تهجيره من قبل، ونسفوا البيوت وأمعنوا في القتل وتكميم الأفواه، وإذلال ابناء صعدة إلى يومنا هذا، في قصة معروفة.

ونتيجة لاستمرار اللعب في صعدة، ومع تسجيل بعض الأهداف، قرر فريق آخر من اللاعبين النزول إلى الملعب، ولكن في الجنوب هذه المرة. قرر الحراك ممارسة اللعبة عام 2007، أي بعد حوالي ثلاث سنوات من اللعب في الشمال، تشجع اللاعبون في الجنوب بما حققه نظراؤهم في صعدة حينها نتيجة لسماح قواعد اللعب في صعدة بتمرير بعض الأهداف، من أجل استبقاء الدعم الخارجي، وإدامة المتعة من وراء تلك المباريات الدامية.

نزل لاعبو الحراك الجنوبي سلميين في البداية، ونتيجة للخلافات التي كانت بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح ومعارضيه، دخلت بعض أطراف المعارضة على خط تشجيع فريق الحراك نكاية في صالح، الذي كان لا يزال مشغولاً بمبارياته الدامية في صعدة. شارك في دعم الحراك للأسف خطباء وأئمة مساجد، كما شارك في الدعم يساريون سابقون، والتقت مصالح المعارضين على الرغم من افتراق أيديولوجياتهم، التقت مصالحهم في دعم اللاعب الجديد الذي كان يرفع شعار السلمية، قبل أن يحمى اللعب، وتسري إليه عدوى الحمى التي استعرت في شمال الشمال، وتخرج اللعبة عن القواعد التي رسمت لها في البداية.

وبما أن الرئيس صالح كان على معرفة كافية، وكانت له خبرة كبيرة بقواعد اللعب، فقد حاول مناكفة خصومه في صنعاء، ولكن في ميادين الضالع وعدن وأبين حينها.

يعرف صالح أن الخصوم في صنعاء لا يريدون الذهاب بعيداً للمساس بالوحدة اليمنية، وإن كانوا من أجل مناكفته دعموا الحراكيين الذين كانوا حينها يرفعون شعارات مطلبية حقوقية ليس لها أبعاد سياسية، غير أن صالح قال لخصومه: ها أنتم بدأتم اللعب بهذا الملف الخطير، سأريكم كيف يكون اللعب.

وبدأت عناصر من حزب الرئيس الصالح تدعم الحراكيين الذين بدا أنهم في فترة من الفترات كانوا يوحدون الفريقين في صنعاء، ولكن في التنافس على الدعم المقدم للحراك، وشيئاً فشيئاً على حساب حلم اليمنيين في الوحدة التي تحققت عام 1990.

تقدم لاعبو الحراك خطوات للأمام برفع سقف مطالبهم مع الزمن، مستغلين تسهيلات فريق صالح، وتغاضي فريق المشترك، رأى اللاعبون أن اللعب ممتع، وأن مكاسب تحققت على الأرض، كان الملعب خالياً إلا منهم، كانوا حينها يبحثون عن قيادة للفريق، انتهز علي سالم البيض، وهو لاعب قديم، الفرصة، وخرج من عُمان بعد أن صمت سنوات طويلة، مطالباً ‘بطرد المحتلين الشماليين’ من عدن.

كان الأمر بالنسبة لحراك الداخل جيداً، البيض مدرب ثقيل الوزن إلى حد ما، والحراك بحاجة إلى شخصية قيادية، غير ان قواعد اللعب اقتضت أن تخلط الأوراق داخل الحراك، إذ رأى فريق من الحراكيين أن البيض يريد أن يركب موجة الحراك، ويستثمر سياسياً في دماء شهدائه، هنا انقسم الحراك حول البيض، كما انقسم حول قضايا أخرى كثيرة، وأصبح هناك حراك البيض وحراك باعوم، وحراك صالح وحراك الإصلاح، وغيرها من الحراكات التي كانت أحياناً تعقد مباريات غير ودية بينها بعيداً عن مبارياتها الأصلية مع الفريق الحاكم في صنعاء.

وفي فبراير 2011، اندلعت الانتفاضة ضد نظام صالح، ودخل على الخط كل خصوم صالح المتخاصمين أصلاً في ما بينهم: جاء الحوثيون من صعدة، وجاء الحراكيون من عدن، وجاء الإصلاح، وجاءت القبيلة إلى ساحة التغيير، تناسى الجميع خلافاتهم، وهتفوا بالشعار الذي صار ‘أيقونة صوتية’ للربيع العربي: ‘الشعب يريد…’.

أذكر أنني اتصلت حينها من لندن بأحد قادة الشباب البارزين من تيار الإصلاح، قلت له: هل صحيح ان الحوثيين يعتصمون معكم في ساحة التغيير؟ أجاب: بالتأكيد، وهم يشاركوننا المبادئ الثورية التي خرجنا لأجلها.

قلت له حينها: أما أنا فلن أصدق سلمية عبدالملك الحوثي حتى لو خرج للشارع بدون الجنبية (الخنجر) الذي يتمنطق به.

قال لي: أنت لست في الميدان، ورؤيتك للجماعة تقليدية. قلت: كيف يشاركون في ثورة سلمية، وهم يسيطرون على صعدة بقوة السلاح؟ وكيف يشاركون في ثورة فبراير وهم أصلاً أعداء ثورة سبتمبر، إلا أن يكون فبراير في نظرهم نقيضاً لسبتمبر؟ قال: لا عليك، لن نحتاج إلى السلاح لاستعادة صعدة، سوف نعيدها بالمسيرات السلمية، وفبراير هي امتداد لمسيرة سبتمبر، وسوف ترى.

ومرت السنوات، وطال غياب هذا القيادي، قبل أن يتصل بي قبل شهور قليلة، قائلاً: نظرتك في الحوثيين صائبة، أجادوا التمثيل.

وذلك بعدما أن اكتشف أن الحوثيين تعلموا من طهران مبادئ التقية السياسية التي استغلوها لتقوية مركزهم، ثم انطلقوا يقتلون ويفجرون ويهجرون، ويعملون السلاح إلى ساعتنا هذه، عدا عن عدم اخفائهم حنيناً أبدياً إلى ما يرونه حقاً إلهياً لهم في الإمامة، الأمر الذي يناقض ثورة سبتمبر الجمهورية.

لعب الفرقاء في اليمن كثيراً، وغيروا قواعد اللعب مرات ومرات، لكن لعبهم الأخطر كان ذلك الذي مس بثوابت البلاد في الوحدة والجمهورية. معروف أن اللعب هواية الساسة الفارغين، لكن بعض اللعب يعد من ‘اللهو الحرام’، عندما يكون على حساب الثوابت الوطنية، حين تصبح هذه الثوابت وسيلة في يد اللاعبين للمماحكات والمكائد، من دون إدراك للعواقب الوخيمة لهذا اللعب على وحدة البلاد وسيادتها.

هو اللعب إذن، وسيلة الفارغين والعاطلين عن العمل، الذين لم يحملوا يوماً مشروعاً وطنياً للبلاد، ولا كانت هذه البلاد على أجنداتهم سلطة ومعارضة.

عندما تخلو الطبقة السياسية من الرؤية تتخبط، وعندما لا تحمل مشروعاً وطنياً جاداً تلجأ للعب، وهذا عين ما يحدث اليوم في اليمن.

ساسة يلعبون في مباراة مملة فقدت شروط الإثارة، وانتهى وقتها، واللاعبون ما زالوا يصرون على اللعب في الوقت الضائع رغم قرب نهايته، وكل يبذل جهداً خارقاً لتسجيل الأهداف في مرمى هذه اليمن الذي حوله ساسته للاسف إلى ملعب كبير اختلط فيه اللاعبون محلياً وإقليمياً ودولياً، من دون أن يتنبهوا إلى أنهم يلعبون في الوقت الضائع، وأن هذا الوقت ينفد بسرعة، وأن صفارة الحكم تقترب شيئاً فشيئاً من شفتيه ليعلن نهاية أشواط من اللعب المرعب، كله أهداف وكله أصفار.

زر الذهاب إلى الأعلى