أرشيف الرأي

أحكام الإسلام بين التضييق والتوسيع ومنهجية التعامل معها

مسائل الاعتقاد من المسائل التي جاء ذكرها مفصلة في الشريعة؛ وأكثرها يدخل في باب المحكمات؛ ‏والخلاف فيها بين أهل السنة قليل ومحدود؛ ولذا فالأقوال والخلاف فيها يدور غالباً بين الحق والباطل؛ إذ ‏الاجتهاد فيها ضيق جداً؛ لأنها أساس الإسلام وأصله، وبقية أحكام الإسلام بنيت عليها؛ وهي في ذلك ‏تختلف عن بقية أحكام الإسلام المتعلقة بتفاصيل حياة الناس العملية، وكلما قربت هذه الأحكام من باب ‏العقائد ضاقت وكلما بعدت اتسع أمرها، فمثلا نجد أن أحكام العبادات فيها سعة ومرونة أكثر من مسائل ‏العقائد سواء في نوع الحكم من حيث كونه محكماً أو ظنياً أو في مجال الاجتهاد؛ إلا أنه أقرب إلى العقائد ‏من حيث الضيق؛ ولذا نجد أن مجال العبادات أكثر تفصيلاً في النصوص من أحكام المعاملات مثلاً؛ فمن ‏القواعد التي يقوم عليها باب العبادات " الأصل في العبادات التوقيف" وهي قاعدة مضيقة لباب الاجتهاد.‏

‏ فإذا انتقلنا إلى أحكام المعاملات وجدناها أكثر سعة وأكثر اختلافاً وأوسع اجتهاداً؛ ووجدنا كثيراً من ‏أحكامها ينطبق عليه مقولة: " قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب "؛ ولذا نجد ‏أن أحكامها أقلَّ تفصيلاً في النصوص من أحكام العبادات، والقواعد الكلية المتعلقة بها أيضاً ذات سعة؛ ‏بحيث يمكن أن ندرج تحتها كثيراً من الجزئيات والحوادث المستجدة التي تكثر في حياة الناس، وتتنوع ‏من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان؛ فمن القواعد الكلية التي يقوم عليها هذا الباب : " الأصل في ‏المعاملات والعقود الإباحة" وهي قاعدة توسع باب الاجتهاد بخلاف القاعدة التي ذكرت في العبادات، ‏ومنها " قاعدة: " لا ضرر ولا ضرار" وقاعدة: " مراعاة أحكام الضرورات‎ ‎والحاجات التي تنزل أحياناً ‏منزلة الضرورات" و"مراعاة العادات والأعراف فيما لا يخالف الشرع". وغيرها من القواعد الكلية التي ‏تندرج تحتها جزئيات كثيرة، ومنها ما يكون جديد لم يسبق فيه اجتهاد.‏

ومع ذلك فهذه الأحكام هي أضيق من أحكام السياسة الشرعية، والتي تعد أوسع الأبواب؛ لأن لها علاقة ‏بكيفية إدارة الناس واستصلاحهم؛ ولذا نجد معظم أحكام هذا المجال ينبني على القواعد الكلية والمقاصد ‏الشرعية؛ ويدور على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتختلف فيه الفتوى باختلاف الزمان والمكان ‏والأحوال، ولا توجد فيه من الأحكام التفصيلية ما يوجد في غيره؛ ولذا فإن باب السياسة أوسع الأبواب ‏اجتهاداً وأكثرها اختلافاً؛ والواجب نحوها أن يوسع فيها باب الإعذار والتغافر، ويقل فيها الإنكار، ما ‏انضبطت بالضوابط الشرعية الكلية، ولم تؤد إلى الإخلال بالمحكمات العقدية؛ فضلاً عن أن يكثر فيها ‏التهارج والاختلاف؛ أو تقام فيها سوق الصراع والجدال؛ والترامي بألفاظ التبديع والتفسيق، والتضليل ‏والتسفيه، والتكفير أو قريب منه على مقولة: " لولا التأويل لكفروا".‏

وبناء على هذا فمنهج التعامل مع مسائل السياسة الشرعية يختلف عن منهج التعامل مع المسائل العقدية ‏بناء على ضيق الأخير وتفصيل النصوص في أحكامه وغالبية الإحكام في مسائله، وسعة الأول وقيامه ‏على القواعد الكلية وعلى الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعلى ضوابط القدرة والتمكن، ومراعاة أحوال ‏الناس صلاحاً وفساداً.‏

وفي حال الخلط بين المنهجين، أو وضع أحدهما في محل الآخر فإن ذلك سيؤدي قطعاً إلى الاختلاف ‏والشقاق، وترتيب أحكام التبديع والتفسيق، فلا يصح مثلاً أن نتعامل مع المسائل العقدية المحكمة ‏المفصلة في النصوص بمنهج التعامل مع المسائل السياسية؛ فيحصل التبديل للعقائد المحكمة تحت ذريعة ‏توسيع الاجتهاد والتغافر والإعذار ووحدة الكلمة وقولي صواب يحتمل الخطأ....الخ. ‏

وكذلك ليس من الصواب أن نتعامل مع مسائل السياسة بمنهج التعامل مع مسائل العقائد، فنضيق ‏الاجتهاد ونبدع المخالف ونضلله في أمور لم يرد تفصيلها في الكتاب والسنة، وإنما أطلق أيدي المجتهدين ‏فيها؛ ليستنبطوا لها أحكاماً وفق المباديء العامة والقواعد الكلية في الشريعة، مع عدم لزوم الاقتصار فيها ‏على ما ورد في الشريعة أو في سيرة الخلفاء الراشدين، بل الضابط العام فيها ألا يكون فيها ما يخالف ‏الشريعة، ولا يلزم حصرها بما نطق به الشرع؛ لأن الشرع أوسَعَ المجال فيها. ‏

وقد نقل ابن القيم رحمه اللَّه تع إلى في بعض كتبه منها «الطرق الحكمية» و"فتاوى إمام المفتين ورسول ‏رب العالمين" وغيرهما مناظرةً جرت بين ابن عقيل وبين بعض الفقهاء القائلين: (لا سياسة إلاَّ ما وافق ‏الشرع)، بيَّن فيها الوجه الفاسد لهذا القول حيث قال ما نصُّه في" فتاوى إمام المفتين ورسول رب ‏العالمين" (1 / 100):‏

‏(وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء بن عقيل وبين بعض الفقهاء، فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو ‏الحزم، ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من ‏الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل ‏به وحي، فإن أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، أي: لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن ‏أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا ‏يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق ‏علي كرم الله وجهه الزنادقة في الأخاديد، ونفي عمر نصر ابن حجاج).‏

وعلى هذا فالتعامل مع السياسة بنَفَسِ التعامل مع العقائد منهجية خاطئة، مآلها تفريق الأمة، وإيجاد ‏مساحات من التعارك والتطاحن الفكري في المنابر العامة ما لا ضرورة له ولا يؤدي إلى نصرة الدين ، ‏بل إلى فقدان الثقة في المتدينين، وتضييع الطاقات والجهود في معارك أقلُّ ما نقول أنها هامشية، في ‏الوقت الذي نحتاج فيه إلى توجيهها لتحقيق إصلاح شامل في كل مجالات الحياة، ليس بمجرد البيان ‏والبلاغ، بل بإيجاد وسائل عملية لهذا الإصلاح؛ ليكون حقيقة واقعة، مشاهدة ملموسة؛ ولا يصح الاكتفاء ‏بمطالبة الدولة للقيام بواجباتها، بل نقوم بما نقدر عليه مما قصرت فيه.‏

‏ وكفانا أن نكون في موقع المنفعل مع الأحداث المتأثر بها، لا صانعين لها ولا موجهين أو على الأقل ‏محرفين لبعض اتجاهها لوجهة صالحة، وكفانا عزلة ومواقف سلبية تجاه ما يحدث في المجتمع من فساد ‏أو إفساد، إما عبر تشريع القوانين المخالفة أو العمل بما يخالف الشريعة، وكفانا تركُ المفسدين يتفردون ‏بإدارة زمام الأمور، بل لابد من مزاحمتهم بمختلف الطرق المتاحة والممكنة ما عدا العنف والصدام؛ فإن ‏الوسائل لها أحكام المقاصد ما لم يرد نصٌّ في تحريمها، وكلُّ وسيلة تثمر تحقيق العدل والمصلحة ‏والإصلاح فهي وسيلة شرعية، وإن لم يرد بها نص.‏

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه "فتاوى إمام المفتين ورسول رب العالمين" (1/101):(والله تع إلى لم ‏يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل ‏وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق ‏استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد ‏لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبّه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ‏ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة ‏خلاف ذلك ؟) وله كلام شبيه بهذا في بدائع الفوائد(4/229).‏

والحقيقة أننا إذا تأملنا في تعامل جملة من السلفيين مع قضايا العمل السياسي المعاصر نجد أنهم يتعاملون ‏بمنهجية النظر في العقائد والمحكمات، ونتيجة لعدم خوضهم في غمار المسائل السياسية العملية غلب ‏عليهم طريقتهم النظرية في تقرير العقائد وبيان مسائلها، وقد كانت هذه أولوية من أولويات العمل السلفي ‏في المرحلة الماضية حيث توجد اختلالات خطيرة في فهم العقيدة ومفاهيم الإسلام بين المسلمين، وهي لا ‏تزال موجودة، والحاجة ماسة لهذا الجهد العظيم في التصحيح ولا يزال أولوية، ولكن لا يجوز الاكتفاء به ‏مع وجود اختلالات ضخمة في الناحية العملية سواء على مستوى الأفراد أو الدولة.‏

والذي يجب التنبه له التفريق بين المنهجين، ولا ندع ما غلب علينا سنين طويلة من منهج يتناسب مع ‏طائفة معينة من الأحكام هو الذي يوجهنا في التعامل مع طائفة مختلفة منها؛ فإن فعلنا ذلك فقد خالفنا ‏منهجية الإسلام في الوقت الذي نزعم أننا من أشدِّ المتمسكين به، ونكون قد فعلنا مثل فعل الظاهرية في ‏تعاملهم مع نصوص الشريعة بظاهرية جامدة لا تنظر إلى العلل والمقاصد التي تتضمنها، ففي ظاهر ‏الأمر هم متمسكون بنصوص الإسلام أشدَّ التمسكك، وفي الحقيقة هم يخالفون جملةً منها مخالفة صريحة، ‏وأقرب مثال يوضح هذا، نهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في المال الراكد، فقد جمد الظاهرية على ظاهره وقالوا: إن ‏من بال في إناءٍ ثم صبه في المال الراكد جاز، فخالفوا مقصد الشارع من هذا النهي، وهو عدم تنجيس ‏وتلويث الماء بكثرة التبول فيه؛ وهذا المعنى موجود في من بال في الإناء ثم صبه فيه، ولا شك أن هذا ‏مسلك منحرف في الاستدلال، ويؤدي إلى إبطال أحكام الشريعة من حيث أرادوا التمسك بها. ‏

وعليه فإنني أدعو إلى مراجعة لمنهجنا وطريقتنا وأسلوبنا، فنحن بشر ولسنا معصومين، وأشخاصُنا ‏وذواتُنا ليست هي الإسلام، فيجب علينا أن نأطرها على حقائقه ومنهجه، فإن بان لنا مخالفةٌ رجعنا عنها، ‏وهذا الواجب الشرعي على كلِّ أحد. قال تعالى:(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا ‏تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112]،(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[النور:51].‏

وفي المقابل هناك من خاض العمل السياسي وغلب عليه هذا المسلك ومنهجيته، فأخذ يتعامل مع بقية ‏قضايا الإسلام ومنها العقائد والمحكمات بذات المنهجية، فشوّه عقائدَ الإسلام ومحكماتِه، ووقع في ‏انحرافات وضلالات كثيرة شوّهت تجربته السياسية، ونفّرت كثيراً من الصالحين الخوضَ في غمارها ‏حفظاً لدينهم وعقائدهم من التحريف والتبديل.‏

والواجب على الفريقين وضع كلّ شيء في موضعه، واتباع العدل والميزان والقسط، فإنه واجب في كل ‏الأمور. قال تعالى:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ ‏بِالْقِسْطِ)[الحديد:25]، وقال: ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : 29]. وفي حديث سلمان عند البخاري: ‏‏(فأعطِ كلَ ذي حقّ حقّه).

وقال الشاعر:‏
إذا قيل مهلاً قال للسلم موضع ....وحلم الفتى في غير موضعه جهل

وقال:‏
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وسدد خطانا على الحق آمين.‏

زر الذهاب إلى الأعلى