من النادر أن تلخص حقيقة واحدة عالما كاملا، كما يفعل ذلك دعم المشتقات النفطية في اليمن. فالفقر والبطالة والفساد المنتشرة على نطاق واسع في بلد ذات يوم سميت بالعربية السعيدة ، الاختلالات الاقتصادية الماحقة والتضخم والنمو الاقتصادي البطيء ، سٌعار القوى المناهضة للتغيير المتمثل في ضرب خطوط الطاقة ، وأنابيب النفط وقطع الطرق وقتل الجنود والضباط ، الارهاب والتطرف والتعصب السياسي والمذهبي والطائفي هي سمات عصيبة في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة التي يمر بها وطننا الحبيب.
ولدعم المشتقات النفطية إسهام كبير في كل ما ذكر اعلاه. فالدولة التي تتحسس طريقها نحو التغيير المنشود بمساندة عالمية ، تحاصرها هذه القوى وتسعي بكافة السبل لأغلاق كافة الممرات المؤدية إلى الدولة المدنية الديموقراطية الفيدرالية الحديثة. والسيطرة على بؤر الفساد ونهب المال العام هو واحد من أبرز العوامل التي يثير فزعها وجنونها. ويشكل هذا الدعم أحد مصادر هوسها المجنون بحصار مشروع الدولة القادمة مثلما يشكل مصادر تمويل فسادهاوإفسادها.
يستهلك هذا الدعم أكثر من ثلث موازنة الدولة والذي صمم نظريا لدعم الفقراء وذوي الدخل المحدود وأصحاب المزارع الهامشية ، غير أن الوقائع تقول أن أقل من خمس هذا الدعم يصل إلى هذه الشرائح المستهدفة ، بينما تقضم الفئات وجماعات المصالح الكبرى بمسمياتها المختلفة ، من بعض كبار المتنفذين في المؤسسة العسكرية والقبلية والتجار والمسئولين المدنيين ، وهي فئات تكاد تكون معروفة للكثيرين ، نحو 80%من عوائد هذا الدعم ، أننا نتحدث عن مئات المليارات من الريالات سنويا التي تذهب إلى جيوب هذا القوى والجماعات. وبالتالي فضلا عن الخسائر الاقتصادية المهولة التي يتكبدها الاقتصاد القومي من هذا الدعم والتي تقدر في المتوسط بنحو 3 -5 مليارات من الدولارات سنويا ، فانه يشكل القيد الكبير على تحرير المجتمع والدولة من هيمنة قوى الفساد والافساد تلك .
تشير المعطيات أن اليمن تستورد سنويا في الوقت الحاضر نحو 270 ألف طن من الديزل المدعوم فقط ، تستهلك منه نحو 80 ألف طن ، أما الكمية الاخرى وهي التي تمثل الجزء الاكبر فيتم تهريبه إلى الدول المجاورة في القرن الافريقي. بلغت الحكاية ذروتها الدرامية أن البواخر المحملة بالديزل المستورد والمدعوم تصل إلى الموانئ لتسجل نفسها عبر المنافذ أنها قد فرغت حمولتها لتلبية حاجات اليمنيين من هذه السلعة ، ولكنها ما تلبث أن تستدير لتفرغ هذه الشحنات الكبيرة في جيبوتي والصومال ودول أخرى مجاورةمكبدة موازنة الدولة مليارات الدولارات الضائعة.
لقد كشف وزير المالية صخر الوجيه لدى حضور جلسة البرلمان الاسبوع الماضي أن فاتورة دعم المشتقات النفطية بلغ العام الماضي رقما قياسا تجاوز 6 مليارات من الدولارات وهو رقم يفوق عائدات اليمن من النفط والغاز ، ويفوق ما خصصه أصدقاء اليمن لدعم المرحلة الانتقالية ، وهي المبالغ التي لا سيطرة لليمنيين على تدفقها ومواعيد هذه التدفق ومجالاته التنموية الملحة.كما أن هؤلاء الداعمين لليمن يجدون غصاصة ، كما يقولون ، بتقديم الدعم المالي لهذا البلد المفقروهييهدر اكثر من ثلث موازنته لدعم كهذا غير مبرر اقتصاديا.
يخلف هذا الدعم تشوهات اقتصادية وسعرية واجتماعية وسياسية شديدة الضرر. ويتفاقم هذا الضرر مع عبور اليمنيين أخطرمرحلة من مراحل تأريخهم الحديث. ويلقى رفع هذا الدعم القاتل للاقتصاد والمجتمع اليمني مقاومة عنيفة من مجموعة المصالح والفئات والقوى النافذة المستفيدة الاولى والاخيرة منه ، التي تبرر بقاءه بالضرر الذي سيلحق بالفقراء وذوي الدخل المحدود من جراء رفعه ، وهي ربع الحقيقة التي يراد بها باطل. فالدعم على هذا النحو هو دعم غير مباشر للفقراء ولا يتناسب مع هذا الرقم الكبير الذي تتحمل موازنة الدولة عبأه الكبير ولصالح القوى النافذة والذي يفوقالتمويل الخارجي بشقيه الاقتراضي والاستثماري في القطاعات غير النفطية بنحو أربعةأضعاف في الوقت الراهن.
ومع ذلك فإن مقاربته واتخاذ قرار بشأنه يحتاج إلى قدر كبير من التخطيط الاستراتيجي والحذر والحيطة حتى لا يتولد عنه ردود أفعال سياسية وشعبية تغذيها تلك القوىلتقوض مرحلة الانتقال السياسي السلمي وتضع البلاد على مرحلة جديدة من الاضطرابات. إن رفع الدعم في ظل غياب استراتيجية تنموية شفافة ، ترافقها استراتيجية للتواصل قد تقود إلى آثار كارثية على الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية والمعيشية في ظل غياب برنامج مصاحب لحماية الفقراء والفئات الهامشية والضعيفة يرافق رفع الدعم عن تلك الفئات. وقد كان لي الشرف في عام 2009 لوضع استراتيجية للتواصل متكاملة خاصة برفع الدعم عن المشتقات النفطية بطلب من الحكومة اليمنية آنذاك من شأنه تحويل عوائد هذا الدعم الكبير للاحتياجات التنموية والاقتصادية وللفقراء وذوي الدخل المحدود. غير أن القوى النافذة وأصحاب المصالح أحبطت المشروع بعد أن مضى على سير عمله أشهر عدة ، وها هو الوقت قد أتى لتبنى مثل هذه الاستراتيجية الضرورية والملحة للاقتصاد والمجتمع والدولة على حد سواء.