[esi views ttl="1"]

اللغة والواقع

يقتضي واجب الشعوب والمجتمعات في كل العصور قدراً عالياً من الوعي بخطورة الانحراف باللغة عن مسارها التواصلي وقيمها المعرفية، مع التنبه إلى ما يقوله بعض المشتغلين بالقضايا السياسية والاجتماعية من أن اللغة صارت في الوقت الراهن عاجزة عن تصوير الواقع وتحديد مشكلاته، في حين لا يتوقف البعض الآخر عن إدانة اللغة والنظر إليها بوصفها وسيلة مضللة لا تعكس الواقع ولا يعنيها تحديد إشكالياته ومواجعه، وأنها في كثير من الحالات، إن لم يكن في كل الحالات، صارت لغة فارغة لا تعبّر عن الأشياء كما هي بل تجرّدها من واقعيتها وتحوّلها إلى سديم من المعاني الهائمة، وأن حاجة الناس باتت ملحة إلى لغة واضحة محددة وألفاظ دقيقة المعاني حتى لا تتصادم المفاهيم ويتحول التعبير عن قضايا الناس وهمومهم إلى رطانة لا يعرفها إلاّ القليل أو لا يكاد يعرفها أحد ولولا هذا الاستخدام الخاطئ والبعيد عن حقيقة اللغة لما استشرت الخلافات حول القضايا المتفق عليها لدى جميع الناطقين بهذه باللغة الجامعة أو التي كانت جامعة.

وليس غريباً، والأمر كذلك، أن يتمادى البعض في التشكيك في جدوى اللغة ووصولهم إلى حد القول بأن البشرية كانت في نعمة قبل أن تستخدم اللغة، وأن الإشارات كانت أدق في تحديد المفاهيم وأكثر قدرة في التعبير عن احتياجات الناس من اللغة التي باتت حالة أوجه، والتي تقول أحياناً الشيء وضده في آنٍ واحد، وهو ما خلق حالات من اللبس في الأذهان يتحول بمرور الوقت إلى نزاعات وحروب.

وذلك لا يحدث في اللغة العربية وحدها وإنما في كل اللغات تقريباً. ويتذكر المتابعون لأحداث الوطن العربي في بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كيف استطاع رئيس الولايات المتحدة السابق جورج دبليو بوش أن ينحرف باللغة ويستخدم الألفاظ في غير موضعها في التحريض على ضرب العراق، وكيف استخدم كلمات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في غير مواضعها لتدمير بلد عربي وسحق جيشه وتمزيق وشائج التعايش بين أبنائه دون أن يكون وراء خطاباته المهووسة أي قصد فعلي لتحقيق أي شيء من معاني الكلمات التي استخدمها.

وينبغي -انطلاقاً من هذا الواقع- أن نعترف بأن اللغة أو بالأصح الاستخدام الخاطئ والعبثي للغة كان وراء استشراء الانقسامات العربية/ العربية، وأن عدم التوفيق والتدقيق في استخدام الكلمات تسبب عنه هذا الواقع العربي المزري والمذهل، وأن المسؤول الأول عن الإهدار المتواصل للإمكانات والطاقات، إذ يكفي أن تنطلق كلمة على لسان هذا المسؤول في هذا البلد لكي يشعل حرائق لا تنطفئ في نفوس المسؤولين في البلد المعني بتلك الكلمات، وأن تفقدهم أعصابهم وتجعل الجميع يتناسون المعنى الكبير للإخوة والجوار ووحدة المصير.

ويبدأ كل طرف في البحث عن أسوأ المفردات وأكثرها ابتذالاً ليرمي بها على الطرف الآخر، ومع تطور وسائل الإيصال واتساع دوائر الكلام فإن اللغة التي كانت وسيلة تعبير وتوصيل حميم قد تحولت إلى أداة تتغير وإلى قوة هدم وهدر وتدمير وإثارة النعرات، واستفزاز المشاعر العدوانية الكامنة في النفوس منذ عصور الغاب السحيقة.

وتصحيحاً لما قد يقع في بعض الأذهان من تصور خاطئ لهذه الإشارات وأنها قد تتضمن الإساءة إلى اللغة أو التقليل من أهميتها كوسيلة حميمة لتجميع القلوب وتحصين المشاعر، أسارع إلى القول بأن اللغة بريئة في ذاتها وأن الإنسان هو الذي ينحرف بها عن الهدف الأسمى ويفقدها براءتها، وأن العرب الذين كانوا يتكلمون لغة واحدة في حروفها ومفرداتها قد صاروا في هذه الآونة الموحشة يتكلمونها لأهداف ومنازع مختلفة في محمولاتها ودلالاتها، وهذا الاستخدام المخالف لطبيعة اللغة ورسالتها هو الذي أسهم في توسيع شقة الخلافات التي باتت تطحن الوطن العربي وتعبث بمقوماته وتعود بها سريعاً إلى قرون خلت.

ومن هنا فإن الهدف القريب والبعيد لهذه الإشارات يتلخص في أن علينا جميعاً أن ننظر إلى واقع اللغة العربية بانتباه وأن واجب هذا الجيل أن يسلم هذه اللغة العظيمة إلى الأجيال القديمة صافية مما لحق بها من عدوان ابتعد بها عن سياقها الأخلاقي والإنساني والتربوي.

الروائي بسام شمس الدين في (لغته الواقف):

هي روايته الجديدة، وقد انتزع حكايتها المثيرة من مسقط رأسه في أحد الأرياف حيث لا تهدأ النزاعات داخل الأسر الكبيرة، ولا تتوقف المشكلات عن التنامي حول أمور ما كان لها أن تحدث لو امتلك الآباء والأجداد رؤية مستقبلية واعية.

وفي غياب السينما في بلادنا التي كان في مقدورها إلتقاط هذا العمل الاجتماعي البديع وتحويله إلى فيلم، فلا أقل من أن يسارع مخرجو المسلسلات للاستفادة من الرواية وتقديمها في مسلسل رمضاني قادم.

تأملات شعرية:
لم يبق شيء
فوق هذه الأرض
نقياً صافياً،
حماقة الإنسان أفسدت حياتنا
وأفسدت براءة اللغاتْ.
أيتها الفصحى
يا أبجدية الله، وابنة الضاد
أعيدي للكلام معناه
وأيقظي شعبَكِ من منامةِ التيهِ
ولعنة السباتْ.

زر الذهاب إلى الأعلى