لا أعرف كيف يعيش أبناء الرؤساء، وما إذا كانت ظروف الحياة في القصور الفخمة، ووراء البوابات المخفورة بالحرّاس، ستسمح لرسالتي هذه أن تصل إليك، أو ستحجبها عنك.
لكني، مع ذلك، أكتبها، وفي ذهني أنك صرت في الرابعة عشرة من عمرك، أَي في مرحلةٍ، يصعب معها على الأهل، مهما حاولوا، كبح جماح أطفالهم، عن اكتشاف العالم، بعيون مختلفة، وبرؤى متمردة أحياناً، لا سيما في ما يسمى عصر ثورة الاتصالات.
سأفترض، ابتداءً، ودونما ذرة شكٍ واحدة، براءتك المطلقة، كما كل الأطفال في سوريا، من أية مسؤولية، عن الصراع الدموي المحتدم على أرضها، للعام الرابع على التوالي.
سأفترض، أيضاً، ومع أسفٍ شديد، جهلك المطبق، بالذي حدث ويحدث، لملايين الأطفال، من أبناء جيلك وجلدتك، كي يبقى أبوك بشار على سدة حُكمٍ استبداديٍ، ورثهُ عن جدّك حافظ، وطمحَ، إلى تربعك عليه يوماً، بحسب ما قال، مرة، أمام بعض مقربيه، رداً على مطالبة الثوار بتنحيه.
سأفترض، كذلك، وإنْ من غير يقين، حُسنَ تهذيبك الشخصي، لتُنْصِت لكلماتٍ، دعني أزعم أن دافعَها الإشفاق، على طفولتك، أو الحب، إن شئت، وأنت تنتظر مصيراً مريباً، لا يدَ لك في صنعه.
من أنا لأقولَ لك ما أقولُ لك؟*.
قبل الإجابة، لا بد من العودة إلى الوراء، وتحديداً إلى السادس عشر من أغسطس/ آب عام 2011، حين قتلت قواتٌ موالية لأبيك، طفلةً سورية، لم تتجاوز سنتها الخامسة أو السادسة.
كان اسمها عُلا، كما أتذكر، وقد دفعني مشهد جسدها الصغير الملقى على قارعة الطريق، وعينها التي فقأها الرصاص، إلى السؤال، في تقرير تلفزيوني، عمن يستطيع النظر إلى وجهها المخضب بالدم، ولا تتراءى له صورة طفله، أو طفلته، ثم تذكرت أن رئيس هذي البلاد الذي أرسل جنده، كي يقمعوا التظاهرات السلمية، دفاعاً عن نظام حكمه، أبٌ، ولديه أطفال، في عُمْر الطفلة القتيلة، أكبر، أو أصغر قليلاً.
بحثت عنك، يومئذٍ، على شبكة الإنترنت، وإذ عثرت على صورةٍ لك برفقة أخيك وأختك، لم أستطع منع نفسي، من الخلط، بين وجوهكم، ووجوه أطفالي، ووجه عُلا، باعتباري أباً، يؤمن بأن لكم، جميعاً، حقاً في الحياة، يساوي بحر البراءة الطافح من عيونكم.
لاحقاً، سقط ألوف الأطفال السوريين قتلى، وفرَ آخرون، بالملايين، مع أُسرهم، أو من دونها، نحو مخيمات النزوح البائسة داخل سوريا، ووراء حدودها. كلهم، كانوا، في نظري، وما زالوا، يشبهونك. كلهم، كانوا، في نظري، وما زالوا، مثلك، لا ذنب لهم، ولا سبب لقتلهم، وتشريدهم، سوى غياب الأخلاق عن الصراعات السياسية، وهو غيابٌ، قد يهددك، للأسف، إن تغيرت موازين القوى، بمثل الذي صار إليه أقرانك، في حمص، ودرعا، وحلب، وإدلب، وغوطة دمشق.
أَقول ما أقول، وأنا أعجب، في الوقت نفسه، كيف لشهوة السلطة، أن تدفع أباً نحو المغامرة بتوريث ابنه، كل هذا الدم الذي ترثُهُ الآن، من والدك، ومن جدك، بينما لايزال حاراً، في ذاكرة العرب جميعاً، المصير المأسوي، الذي انتهى إليه، أبناءُ طغاة آخرين، أحدثهم معمر القذافي.
وبعد:
يا حافظ الأسد. أعني الحفيد المراهق طبعاً، لا الجد الميت؛ لماذا لا تنجو بنفسك؟ لماذا لا تكبر قبل أَوانك، وتبحث، مع أمك، عن مخرجٍ لك، ولأشقائك الأبرياء، من مستنقع الدم، وبراميل المتفجرات، وغاز السارين؟
يا حافظ الأسد. أعني الجد الميت، هذه المرة، لا الحفيد المراهق؛ ماذا كنت ستقول، سوى هذا الذي أقول، لو أتيح لك أن تكتب، من قبرك، رسالة حب، إلى حافظ الأسد، أعني ولدَ ولدِك المثقلة طفولته، بثأر ضحاياك وضحايا أبيه؟
----------------------------------------------------------------
*جملة من مطلع قصيدة محمود درويش "لاعب النرد"