إشارة مهمّة تلك التي ذكرها الرئيس في خطابه يوم أمس بقوله: «إن هناك من يريد أن يأتي بالمزيد من العناصر الإرهابية إلى اليمن» وتلخيصه القول بأن اليمن يتعرّض لمؤامرات عديدة من بينها تنظيم «القاعدة» الإرهابي كحالة «مؤامرة» بحد ذاتها، كما أشار أيضاً إلى أن 70 من هيكله في اليمن هم أجانب، أي من خارج اليمن، ولذلك لا يهمهم أبداً أن يتدمّر البلد.
وقد ألمح الرئيس إلى أمر مهم وهو أن هناك دولاً لا يريد أن يسمّيها تسعى إلى تصدير الإرهابيين إلى اليمن، هذه الإشارة المهمّة في خطاب الرئيس ينبغي أن تكون أساساً لتناول مشكلة «القاعدة» والإرهاب في اليمن، فالمسألة ليست مجرد «متطرفين دينيين» يسعون إلى تطبيق «شرع الله» بحسب مفهومهم، وقتل «الكفرة الفجرة» الواقفين في طريقهم؛ بل استراتيجيات دول، وتكتيكات مخابرات عالمية، وأوراق خطرة يتم استخدامها لإدامة حال عدم الاستقرار، وتفتيت المجتمعات، وتأبيد الهيمنة الخارجية على المنطقة عبر مدخل «مكافحة الإرهاب» وما يستدعيه من اتفاقيات وتدخُّلات تفتح باب الهيمنة على مصراعيه للدول المهيمنة لرسم خارطة المنطقة، والهيمنة على مساراتها الداخلية.
وقد وجدت الهيمنة الدولية نفسها في حالة فراغ بعد نهاية الحرب الباردة بداية التسعينيات من القرن الماضي، كما أن ثيمة «المجتمع المدني» لم تكن كافية لتبرير الهيمنة والتدخُّل الدولي في المنطقة العربية الذي كان يتخذ من مكافحة الشيوعية والحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي غطاء له.
ولهذا كان مدخل مكافحة الإرهاب الذي اتخذ مساره الرسمي والدولي منذ عام 98م، حين أعلنت الحالة الإرهابية عن نفسها بزعامة أسامة بن لادن، وبمسمى «قاعدة الجهاد العالمي» التي دشّنت عملياتها الإرهابية بتفجير السفارة الأمريكية في نيروبي والمدمرة "كول" في عدن.
هيمنة الأجندة الدولية على المنطقة تحت مسمّى «مكافحة الإرهاب» لا يعني أن الحالة مفتعلة من قبل الخارج؛ ذلك أن الدول المهيمنة لا تعمل خارج إطار السياق الموضوعي السياسي والاجتماعي، كما أنها لا تخلقه من العدم.
على العكس من ذلك فإن مقوّمات الإرهاب موجودة في الثقافة الدينية السائدة، والمعطيات السياسية والاجتماعية المتمثّلة بالديكتاتورية والاستبداد، وغياب الحريات العامة والسياسية، والفقر والبطالة، وانعدام فرص الحياة الكريمة، وانسداد أبواب المستقبل أمام قطاعات الشباب المتحمس؛ وقبل ذلك كله الفكر الديني المتطرف، كل ذلك يوفر بيئة خصبة للتطرُّف والحركات الإرهابية المتطرّفة.
وعندما تقرّر الدول المهيمنة وأجهزة مخابراتها صاحبة المصلحة في تكريس حالة الإرهاب والعمل من خلال عناوينه للسيطرة على دول وشعوب المنطقة؛ فإنها لا تبدأ عملها من الفراغ؛ بل من داخل السياق الموضوعي على أرض الواقع الذي يتم توظيفه؛ وإعداد برامج السيطرة على حركاته المتطرّفة بواسطة التمويل وبرامج غسيل الأدمغة، وبواسطة البنى القيادية للتنظيمات الإرهابية السرية.
والملاحظ بوضوح خلال العشر السنوات الأخيرة هو التحوُّل في بنية التنظيمات الإرهابية من خلايا سرية تعتمد في نشاطها الإرهابي على العمليات الإرهابية المخطط لها عبر شبكاتها العنقودية التي لا تتعرّف على بعضها البعض؛ تحوّلها إلى أشبه بالحركات المعلنة التي تتمترس على مناطق جغرافية ذات تضاريس ملائمة مثل المناطق الجبلية والصحراوية والمناطق النائية التي لا تتواجد فيها الدولة، أو يكون نفوذها فيها ضعيفاً وشبه منعدم.
وقد تناسقت العمليات الإرهابية لهذه التنظيمات في باكستان والعراق واليمن خلال السنوات المذكورة مع رتم هبوط وصعود حالة الاستقطاب والصراع السياسي بين القوى السياسية المتباينة؛ وهو الأمر الذي كشف تداخل التنظيمات الإرهابية وعملياتها الإجرامية مع الأجندات السياسية المتصارعة.
ذلك أن بُنية التنظيمات الإرهابية غدت أقرب إلى المافيات المحترفة التي تعمل وفق علاقات التحالف وتبادل المصالح والأجر المدفوع، وليس فقط وفق أجنداتها الأيديولوجية الدينية، وفي تداخلاتها «السياسية» وتحالفاتها «المخابراتية» الممتدة في الداخل والخارج، تبدو حالة معقدة؛ لا يكفي مطلقاً التعامل معها وفق الخيار الأمني، وخصوصاً ذاك الذي يهدر «السيادة» من دون أن يضمن هزيمة الإرهاب، بل على العكس من ذلك يؤجّجه، ويوفّر لتنظيماته البيئة المناسبة للانتشار والتوسُّع.
ونظرة خاطفة على وضعية الحالة الأمنية والتنظيمات الإرهابية وعملياتها في باكستان والعراق واليمن خلال السنوات الفائتة؛ يلاحظ المرء بسهولة تنامي ظاهرة الإرهاب وتوسعها بدلاً من تقلصها وانتهائها كنتيجة كانت مفترضة ومتوقّعة للجهد الدولي والمحلي المتحالف في الحرب الدولية لمكافحة الإرهاب.
وهذه الوضعية تعيدنا إلى نقطة الصفر، وإلى تأكيد البديهيات التي اعترف بها الجميع في تحليلهم لأسباب الإرهاب عقب 11 سبتمبر 2001م، والتي تتمحور حول غياب الديمقراطية والحريات وفرص الحياة والعيش الكريم في المنطقة العربية، وانتشار الفقر والبطالة وثقافة التطرف الديني، واهتراء نظم التعليم والثقافة المجتمعية الحديثة وغيرها من الأسباب.
والعجيب والغريب والمريب هو التفاف التحالف الدولي المهيمن عقب ثورات الربيع العربي على أهداف هذه الثورات التي رفعت شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية والقضاء المستقل ودولة القانون والمواطنة، وإذا بالحال يعود إلى وضع أسوأ مما كان عليه قبل الثورات الشعبية؛ حيث يدفع التحالف الدولي الإقليمي إلى تجديد عمر الاستبداد والفساد، وإعادة إنتاج الديكتاتوريات بصورة أكثر قبحاً وفجاجة؛ ولعل ما يحدث في مصر نموذج واضح لهذا الارتداد المدعوم إقليمياً ودولياً.
هنا في هذا النموذج الارتدادي يتم التنكيل بتيار سياسي واجتثاثه بكل الوسائل؛ ما يعطي رسالة تشجيعية للتنظيمات الإرهابية مفادها: "أن التنظيمات الإسلامية التي تنبذ العنف والإرهاب وتقبل بالممارسة الديمقراطية وقواعدها والعمل السياسي ومحدّداته يتم اقصاؤها بالقوة واجتثاثها بالعنف والقضاء الذي أصبح أداة من أدوات الاستبداد والقمع والاجتثاث".
خلاصة القول إن «مكافحة الإرهاب» عملية مركبة وواسعة ولا تقتصر على الجانب الأمني، وحتى الجانب الأمني يتطلّب توخّي الحيطة والحذر حتى لا ينتج عنه إمداد الإرهاب بعوامل البقاء والاستدامة بدلاً من سحب الأرض من تحت تنظيماته والقضاء عليه، من دون أخذ المسألة بكافة أبعادها الموضوعية، وارتياباتها التآمرية الخارجية؛ ستكون «الحرب الثانية» على الإرهاب التي دشّنت اليومين الماضيين في أبين وشبوة سيفاً ذا حدّين؛ يمكن بالفعل أن يقضي على جذور تنظيمات الإرهاب إلى حدٍّ بعيد، ويمكن أن يكرّسها كحالة دائمة وحروب متوالية، إذا اقتصر الأمر على تلبية متطلبات التحالف الدولي، أكثر منه استجابةً لحاجات الواقع الموضوعي..!!.