[esi views ttl="1"]

كنت معلّماً

بعد تخرجي من الإعدادية مطلع التسعينيات، التحقت بدار المعلمين، نظام ثلاث سنوات للحصول على دبلوم يضمن لي درجة وظيفية في سلك التعليم. ومن "معهد المعلمين العام" في صنعاء، تخرجت بترتيب الثاني على مستوى الجمهورية؛ تتقدمني فتاة.

حصلت على الوظيفة بالتزامن مع بدء دراستي الجامعية في قسم الدراسات العربية في كلية التربية جامعة صنعاء. كانت أعواماً صعبة إذ كنت حينها أمارس ثلاثة أعمال في وقت واحد، طالباً في الجامعة، ومدرساً في مدرسة دار الأيتام، ومشرفاً اجتماعيّا في السكن الداخلي للدار.

في سنة التخرج أضفت للأعباء الثلاثة، وظيفة مدقق لغوي في إحدى المجلات، ولجت من خلالها إلى عالم الصحافة، وقطعت صلتي بوظيفة التدريس نهائيّا منذ نحو عشر سنوات.

كنت لم أزل فتى يافعاً حين حكمت علي الظروف أن أكون في مقام الأب في دار الأيتام. كنت لم يظهر شاربي بعد، ولم أصبح زوجاً ورب أسرة إلا بعد أربع سنوات على عملي في الدار. وصرت والحال هكذا، أستغرب ما يكتبه الشعراء عن "الشباب" وأيامه لأنني لم أعش فترة مماثلة، وكأنني انتقلت مباشرة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة "القسرية"، من دون فاصل.

ثلاث سنوات في دار المعلمين وأربع في كلية التربية، تعرفت خلالها على طرق التعليم وعلم النفس التربوي، وفلسفة التربية، ونظريات ومقولات ماسلو، وكوهلر، وثورنديك، وفيثاغورث، وجان جاك روسو، وأرسطو طاليس، والفارابي، وابن رشد، وأحمد شوقي.

هذا المعشر العظيم علمني أن أفكر في عواقب، ما أقوله أو أفعله لأن ثمة من يتعقّب خطاي وقد يحذو حذوها. إحساس باهظ بالأُسوة المفترضة التي ينبغي عليّ تمثّلها في كل وقت. وتبعاً لذلك أبدى أحد تلاميذي دهشته حينما رآني صدفة، أدخّن. على الرغم من ملازمته لي سنوات. لا أحد منهم يعرف أنني، للأسف، مدخن عريق.

في دار الأيتام كان ثمة أطفال يمثلون حالات مستعصية على التعامل. ينهرون كل المعلمين ويخالفون تعليماتهم ولا يستطيع أحد انتزاع احترامهم. كدت أصاب بالإحباط وأنا أتجنّب وضعهم في مواقف يكسرون فيها كلمتي أمام زملائهم. ثم توصلت إلى طريقة حصدت بها احترامهم وصداقتهم. فقط جعلتهم يبوحون.

كل طفل مهما بلغ عتوه، بمجرد أن يبوح لك قصته وآلامه ومخاوفه، يصبح بعدها صديقك، إذ لم يعد لديه سر مؤلم خافٍ عنك، يتوحش بسببه، ويستقوي به عليك.

أكثرهم عتواً ونفوراً صار صديقي منذ باح لي أنه في الحقيقة، ليس يتيماً ولكن أباه أصيب بالجنون وطلّق والدته التي بدورها تزوجت من آخر، لتتفكك الأسرة، ويغدو الصغار بلا عائل، إلى أن ألحقه أحد أقاربه بدار الأيتام.

يدرس أبنائي اليوم، في مدرسة أهلية أسّسها نفر من زملاء الدراسة، يسمع أبنائي منهم حكايات و"بطولات" عني أيام كنت طالباً ليعودوا كل يوم بسؤال جديد: هل صحيح يا أبي أنك كنت كذا؟ فأبتسم بمدلول: نعم.

قبل سنوات، وأثناء انطلاقي من صنعاء شرقاً، لحضور عرس في حضرموت، توقفت السيارة في إحدى النقاط الأمنية بين صنعاء ومأرب، وفجأة أمر أحد الجنود زملاءه، بالتوقف عن التفتيش فوراً. اقترب الجندي من نافذتي ولوّح لي بتحية عسكرية لا تكون إلا لمن هم أعلى منه رتبة، قائلاً: حياك الله يا أستاذ عادل، لعلك لا تتذكرني. أنا من طلابك في دار الأيتام. تفضل أنت ورفاقك في سلام الله. انطلقت السيارة، وتفرغت بعدها لتلقي نظرات الإكبار من رفاق الرحلة.

تكرر المشهد في مواقف مختلفة. عرفت خلالها أن التكريم الحقيقي للمعلم هو أن يرى طلابه يتألقون في ميادين الحياة ويذكرونه بخير.

كنتُ معلماً. وانقطعت تماماً عن ذلك الجو. ذاكرتي مثخنة بتعب وافر يفوق ما أواجهه اليوم في "مهنة المتاعب". لهذا أحيّي من أعماق قلبي، الصامدين في الميدان من زملائي المعلمين وأقول لهم: كم أنتم أقوياء، وكم أنتم نبلاء، وكم أنتم رائعون.

زر الذهاب إلى الأعلى