لو قصدتَ شارع جمال عبد الناصر، أحد أكثر شوارع صنعاء التجارية ازدحاماً وحيوية، من أجل شراء ملابس أو مجوهرات أو أية سلعة أخرى، أثناء انقطاع التيار الكهربائي، فإن شيئاً واحداً ستجده أمام جميع المحلات، وكأنه طريقة ترحاب شارع الزعيم بضيوفه: أهلاً بكم في شارع ال"مواطير".
هذا الشيء الذي يدعوه اليمنيون ب"الماطور" (في تعريب للكلمة الانجليزية) هو نفسه المولّد الكهربائي. إنه في كل مكان. إذا لم تشاهده أمام المحلات التجارية، فما من طريقة تحول دون تنشّق ما ينفثه من ثاني أوكسيد الكربون في ذرات الهواء. وإذا لم تشعر برائحته، أو تميزها، فليس بمقدورك التحدث عبر الهاتف، أو سماع رنينه عند تلقيك اتصال، لكثرة وشدة ضجيج المولدات الكهربائية.
لا يكاد يخلو بيت، أو محل، أو مستشفى، أو شركة من "ماطور". إنه أوضح دليل على عدم ثقة المواطن بحكومة يُفترض أنه هو، وفق العرف الديموقراطي، من يمنحها الثقة.
يذكّر "الماطور" اليمنيين يومياً بغياب الدولة وضعفها ويساعدهم على التكيّف السلبي معها وتقبّلها بأقل قدر من السخط، حتى أن انقطاع الكهرباء صار حدثاً عادياً لا يثير غضب اليمني ولا يستفزه، وكأنه من فعل الطبيعة كغروب الشمس وهطول المطر والقضاء والقدر.
هكذا يحدث الأمر: مخرّب أو شيخ على بُعد 173 كيلومتراً من العاصمة، أو أقل، يقرر الاعتداء على الكهرباء لأي سبب من الأسباب، كاعتقال أحد أقاربه، أو رغبةً في الحصول على هبة حكومية، أو مقتل أقرباء بغارة أميركية، فيصوّب قذيفة أو يطلق زخة رصاص على خطوط الضغط العالي، أو يرمي خطّافاً يُدعى "خبطة" على خطوط النقل، فتخرج المحطة فوراً من الخدمة. وقبل أن يتلقى مشتركو وكالة الأنباء اليمنية رسالة إخبارية sms عبر هواتفهم تكون العاصمة قد غرقت في الظلام. لحظات وتُسمع حنْحنة المولدات الكهربائية.
يكفي أن تسير في شارع جمال عبد الناصر مسافة نصف كيلومتر، من السفارة المصرية حتى ميدان التحرير وتفرعاته، لتتعرف على سلالاتٍ وأجيالٍ من ال"مواطير"، وتحدثك نفسُك بأن كل حاوية قادمة من الصين إلى اليمن، عبر تجار يمنيين طبعاً، إنما تحمل مولدات كهربائية أو كشّافات إضاءة بالضرورة.
كان "الماطور" قبل سنوات أمارة ترف ورفاهية في المجتمع اليمني. يكفي أن يُسمع صوته من أي منزل حتى يُستنتج أن مالكه إما مسؤول في الدولة أو رجل أعمال. بيد أن الأمر اختلف منذ مقتل نائب محافظ مأرب جابر الشبواني في 24 أيار/مايو 2010 بغارة خاطئة لطائرة أميركية يعاقَب اليمنيون جماعياً بسببها. وقتها اندلعت معارك عنيفة بين قبائل عبيدة، التي ينتمي لها الشبواني، وقوات الجيش. وبعد أسبوع على الواقعة، توعدت "كتائب العهد والميثاق لجابر الشبواني ومرافقيه" بالرد، فقصفت المحطة الكهربائية بالأسلحة الثقيلة، وغرقت صنعاء في الظلام أياماً. تلك كانت لحظة فارقة في حياة اليمنيين.
حتى ذلك الوقت، كان انطفاء الكهرباء يحدث بشكل متقطع، وبمعدل ساعتين، بسبب العجز التراكمي في التوليد وزيادة الطلب سنوياً بنسبة 9 في المئة. منذ تلك الغارة، صار انقطاع الكهرباء عادةً تحدث بفعل فاعل بالضرورة، وتحوّل إلى أداة ابتزاز وحرب بين الحكومة ورجال القبائل، بل وبين الغارات الأميركية وتنظيم القاعدة.
انحنت الحكومة للعاصفة واعتذرت بالنيابة عن غارة واشنطن الخاطئة غافلة عن أنها بذلك إنما تحثّ كل من أراد تركيع الدولة على فعل الشيء ذاته: ضرب محطة الكهرباء. وبالفعل، اندلعت الانتفاضات العربية بعد شهور، وخرجت التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام مطلع 2011 في مدن يمنية عدة، فصار ضرب محطة الكهرباء عادةً يومية ونوعاً من الإدارة بالأزمات، يتبادل الاتهام بشأنه النظام والمنشقون عنه. تحولت الكهرباء إلى وسيلة تعذيب وعقاب جماعي.
في كتابه "الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة"، يذكر الصحافي البريطاني روبرت فيسك أن الأفغان العرب هم أول من نفذ عملية اعتداء على خطوط الكهرباء لتعطيل تحرك القوات الروسية في أفغانستان. انتقلت الفكرة إلى الجزائر وأصّلت الجماعات الإسلامية لها شرعياً لاستخدامها ضد الحكومات المحلية "الفاجرة". ومع الوحدة بين شمال وجنوب اليمن في أيار/مايو 1990، بدأت عودة المجاهدين العرب الأفغان، ومعظمهم يحملون الجنسيتين اليمنية والسعودية، بالتنسيق مع نظام الرئيس السابق صالح وحليفته في الحرب الباردة واشنطن، لاستخدامهم بحرب صيف 1994 ضد شريك الوحدة: الحزب الاشتراكي اليمني.
رحل "الشيطان" الشيوعي فانفضّ الحلف بين الحكومة و"المجاهدين". وفي كانون الاول/ديسمبر 1998 صدرت أحكام قضائية بحق عناصر من تنظيم "جيش عدن أبين الإسلامي" بتهمة التخطيط لهجمات ضد السفارة البريطانية. رد التنظيم بعد أيام باختطاف 16 سائحا، أصيب أربعة منهم أثناء مداهمة الجيش. في تشرين الاول/أكتوبر 1999، أعدم مؤسس التنظيم أبو بكر المحضار. وكانت تلك نقطة اللاعودة.
غير إن القاعدة لم تدرج حقول وأنابيب النفط اليمنية في قائمة أهدافها إلا في آذار/مارس 2002، أي بعد ثلاثة أشهر من أول غارة أميركية استهدفت قائدها المحلي أبو علي الحارثي.
كانت القاعدة تستهدف المصالح الغربية حصراً (المدمرة كول - فندق لمبيرج – سفارات - اختطاف سياح - شركات نفط أجنبية). بعد الغارة الأميركية شَرَعت القاعدة في "يمْنَنَة" هجماتها، فصار أنبوب النفط، وسائر المصالح الحكومية، أهدافاً مشروعة. وتلك هي الكارثة: اليمن داخلة في الخسارة لكنها خارج "الأرباح".
إن نكبة الاقتصاد اليمني الحالية تعود لغارتين أميركيتين: غارة الحارثي شرّعت استهداف أنبوب النفط، وغارة الشبواني شرّعت استهداف الكهرباء. بدليل أنه من بين 48 هجوماً للتنظيم بين 1992 - 2009 فإن هجوماً واحداً فقط استهدف محطة كهربائية، وخمسة هجومات استهدفت منشآت نفطية (حسب قائمة لمركز كارنيغي أعدها كريستوفر بوشيتك صدرت ضمن كتاب "اليمن على شفا هاوية").
6 هجمات إذاً خلال 17 سنة مقابل مئات الهجمات خلال ثلاث سنوات (2011 - 2014) بخسائر قدرتها الحكومة بـ4.7 مليارات دولار. وهنا تتضح هشاشة العلاقات اليمنية الأميركية وسلبيتها. ذلك أن مساعدات واشنطن لصنعاء خلال سنوات لا تكاد تغطي خسائر عام واحد في قطاع الكهرباء.
إن اليمن وباكستان في طليعة الدول الشريكة بالحرب على الإرهاب، وأكثر دولتين تنتهكهما الطائرات الأميركية في العالم، لكن "مساعدات واشنطن لليمن عام 2009 بلغت 27.5 مليون دولار فقط، مقابل 1.8 مليار دولار لباكستان عام 2008".
وفي كل مرة تُضرب الكهرباء يتساءل المواطن اليمني لم لا تستهدف الطائرات من دون طيار المخربين؟ بدلاً من ذلك يسقط مدنيون وأبرياء في الغارات الأميركية، كما في موكب عرس في رداع، فتزداد الأمور تعقيداً ويكتسب تنظيم القاعدة، والجماعات المسلحة، المزيد من التعاطف.
لقد تغيرت أمور كثيرة خلال الثلاث سنوات الماضية: غادر رئيس وجاء آخر، رحلت حكومة وحلّت أخرى، وذهبت القوى السياسية إلى مؤتمر الحوار، وتغير شكل الدولة من دولة بسيطة إلى مركبة... لكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو الاعتداء شبه اليومي على محطة الكهرباء الذي صار عادةً. والعادات السيئة يصعب الإقلاع عنها.
نادى شباب الثورة بإسقاط النظام. غير ان المبادرة الخليجية، وبمباركة أميركية، حصّنته وحمته من السقوط. وحدها محطة مأرب الغازية سقطت أو تكاد، ومعها اقتصاد اليمن.