أرشيف الرأي

في اليمن وسواها الدولة العميقة يعاد إنتاجها!

بعد أكثر من ثلاث سنوات من انطلاقة شرارة الربيع العربي من جنوب تونس لازالت تلك ‏البلدان التي عصفت بها رياح التغيير تراوح مكانها بل وتتراجع على أصعدة مختلفة، فالدولة ‏المركزية تتهاوي وهيبة الدولة تكاد تتوارى وتتلاشى فغدا الأمن هاجس تلك البلدان وكأنه ‏مقدرا لها أما العيش تحت حكم استبدادي إقصائي أو البديل نماذج الفوضى التي تطبع بها ‏المشهد السياسي في أكثر من بؤرة عربية!‏

اثبتت تجارب العرب الديمقراطية خلال عقود مضت بأنها فعلا مجرد شكلا بدون مضمون، ‏فقط تقديس الصندق والاصبع البنفسيجة، ذلك ان الديمقراطية جوهرها بعيدا عما تسفر عليه ‏تلك الانتخابات السابقة واللاحقة فالديموقراطية هي منظومة سلوك متشابكة الابعاد والغايات ‏ولا تنحصر في الاستحقاق الانتخابي فحسب

يتزامن حالة تداعيات الربيع العربي بعد ثلاث سنوات عجاف مع ربيع انتخابات الرؤساء ‏المعتقين، فهل هذا من قبيل المصادفة أيضا ما يجري من موسم الانتخابات في أكثر من بلد ‏عربي كما في العراق وسوريا ومصر والجزائر أو إعادة إنتاجهم فالدولة العميقة لازالت هي ‏نفسها وبصيغ متحولة خادعة، والنخب تجدد ولائها، وحتى ما يجري في اليمن يصنف في هذا ‏السياق ولو بصورة مغايرة فتوافق النُخب والأحزاب للرئيس اليمني الحالي المؤقت كان لفترة ‏معينة انقضت دون ان يتحقق شيئا وبعد حوار طويل افرز جملة من المخرجات التي لم تلقى ‏تفاعلا من الشعب بقدر ما فتحت الباب للتكهنات والجدل العقيم في كل تفاصيل ما تم الاتفاق ‏عليه . ‏

هل يعني اتجاه أكثر من بلد عربي للانتخابات رئاسية في أوقات متقاربة هو نوعا من من ‏الترتيب المسبق اذا سلمنا جدلا بنظرية المؤامرة ، ام ان مآلات الربيع العربي متشابهة ودخلت ‏في طور التحول الجديد، وفق هذا المنظور يعتقد بعض المحللين بأن الدولة العميقة لازالت ‏تنخر في جسد تلك الأنظمة التي عصفت بها محاولات رياح التغيير، وهي ألان في طور إعادة ‏تموضعها وتجديد شرعيتها بصيغ وأشكال مختلفة، وربما تغيرت بعض النُخب الفاعلة أو التي ‏انقسمت على نفسها كما في اليمن وهي في نهاية المطاف أنماط سلطوية تطمح لتبديل الأدوار ‏ليس إلا، ولكن يبدو ان مؤسسات تلك الدول قد أنهكت وهي اضعف مما كانت عليه قبل بضع ‏سنوات، بل وبعضها تتجه لحلول فدرالية كما في العراق وليبيا واليمن، يأتي ذلك وسط جدل ‏حول مدى دور المؤسسات العسكرية وتجديد دورها والارتهان الخارجي إقليمي كان أو دولي، ‏وكل شي يأتي وفق سيناريو جديد..‏

‏ ورغم ان اليمن لازال يتخبط بين تصارع القوى القديمة الجديدة المتحالفة بالأمس المختلفة ‏اليوم، إلا ان خصوصية الربيع العربي في نسخته اليمن يكاد يراوح مكانة بين التطلع لمساعدة ‏الأشقاء والأصدقاء سواء في حل الإشكال السياسي وشكل الدولة وصياغة الدستور إلى جانب ‏مساعدات المانحين، فالشارع اليمني فقد الأمل بساسته السابقين واللاحقين وغدا البعض مظللا ‏يرسم أحلام وردية للدور المفترض للراعي الإقليمي والدولي وكأن لديهم عصاء سحرية لحل ‏مشكلات اليمن، ذلك ان التغيير الأساسي المؤمل لن يقوم به سوى اليمنيون انفسهم، فقد مضى ‏نحو ثمان سنوات على مؤتمر لندن للمانحين والذي عجز النظام السابق في احتواء تلك ‏المساعدات بسوء الإدارة وغياب الرؤية الاقتصادية البعيدة المدى، ولم تستفد اليمن سوى من ‏مبالغ متواضعة مما كان قد رصد لها وفق ملتقى لندن السابق، وهاهو المؤتمر الأخير في لندن ‏نفسها، يخشى ان البعض بأنه اقل تجاوبا من المجتمع الدولي عن سابقة .‏

كيف يراد لحل الإشكال الاقتصادي في بلدان الريع العربي وسط تخبط سياسي محبط ؟، وفي ‏ظل شرعية مشكوك فيها، وفي ذلك يلاحظ المراقب والمتابع مدى التلاعب بالقوانين والجداول ‏الزمنية التي التزم بها دعاة التحول الجدد في أكثر من بلد عربي سواء في مجال الانتخابات ‏برلمانية كانت أو رئاسية، فقط من اجل إعادة إنتاج أنفسهم بصيغ أخرى.‏

تقدّم مصر التي تعتبر دولة محورية قدوة مثالاً مُعبِّراً لدور الدولة العميقة حول كيفية ‏استمرار الحكام الاستبداديين في التعاطي مع الأطر القانونية والدستورية لجعلها قوالب طيّعة ‏كلياً. فالانتخابات الرئاسية ستُجرى قبل الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي يقلب ما اتفق عليه ‏بما سمى خارطة الطريق فلا خارطة ولا طريق سواء في مصر أو الجزائر أو العراق، هذه ‏الأمثلة إنما تعكس بقاء سمة أساسية للأنظمة التي أطيح بها وباسما أخرى،( وكأنك يابو زيد ‏ماغزيت)، وكأن تلك الأنظمة تخير المواطن بين الاستمرار في الفوضى الخلاقة أو العودة ‏لأساليب الأنظمة التي قامت ثورة ضدها حيث الامن النسبي والحزم المطلوب والدولة ‏المركزية الصارمة .!!‏

في اليمن وسواها من بلدان الربيع العربي والعراق يجمعها كلها حالات متشابهة من تدهور ‏أمني غير مسبوق متزامنا من حدة الاستقطاب المذهبي بحيث تم تفكيك بنية تلك المجتمعات ‏فزرعت الفتن وزادت من تعقيد المشهد السياسي في تلك البلدان والتي تشهد تحولات سياسية ‏وديمقراطية لا زالت بعضها تعاني شراسة مقاومة قوى الثورة المضادة المناهضة لعملية ‏التغيير أو فرض قوى متشددة نفسها في المشهد السياسي في كل تلك البلدان، وفي رؤية ‏بانورامية لخارطة الربيع العربي وكذا العراق يلاحظ المراقب والمطلع وكل من يتابع غزارة ‏الإعلام المتصارع فيما بينه مدى خطورة الأحداث الجارية فيها حيث تعاني نزاعات واغلبها ‏تكون الدولة نفسها طرفا في ذلك النزاع تحت مسميات شتي منها محاربة الإرهاب ونحو ذلك، ‏واليمن أحدى تلك البؤر المتوترة والتي ابتليت بساسة انتهت صلاحياتهم وشرعيتهم عندما ‏يرون اليمن يتمزق بهدوء وفي حالة موت سريري لغياب الدولة التي لم يؤسسوها بعد ان ‏استفردوا بالسلطة ونجحوا في تفريق أبناء الأمة فتفرقت أيادي سباء بفعل أنانية ونرجسية ‏ساسة اليمن والذين يحرصون على تماسك أحزابهم ونفوذهم أكثر من حرصهم على وحدة ‏الوطن، وكذا على قيادات تلك الأحزاب المؤبدة حيت تمجد زعمائها فهم أهم من الحزب نفسه ‏في حين الحزب يفوق في الاهتمام عن شئون الوطن فتماسك الحزب من أولوياتهم أما اليمن ‏فلها رب يحميها، وفي خضم هذه التداخلات وحدة الاستقطاب وعقدة (إخوان فوبيا (او (عقدة ‏المذهب)، في اليمن وسواها لن تثمر سوى مزيد من التدهور، الإشكال الآخر هو الاستقطاب ‏المذهبي الحاد الذي يعتبر ثقافة دخيلة على اليمن وبعض بلدان الربيع العربي، حيث يتقاتل ‏اليمنيون وهم من ملة واحدة تجرهم أحقاد عقائدية تاريخية غير مبررة فتناسوا بأن القاتل ‏والمقتول في النار وأنهم فقط ينفذوا أجندات سياسية خارجية، وليس هذا فقط بل ومن يفتي ‏للتحريض على استعداء الآخر، هل اليمن بحاجة لفارس يجمع عليه الجميع في زمن تشتت فيه ‏الانتماء، وتفرقت أيادي سباء، وفي هذه الأجواء المسمومة اليمنيون بحاجة إلى معجزة رغم أن ‏زمن المعجزات فقط في الأساطير ولا وجود له سوى في الكتب الصفراء القديمة ..! .‏

زر الذهاب إلى الأعلى