بعد الوحدة وتحديدا عقب انتخابات 1993 البرلمانية تأكد لقادة الحزب الاشتراكي - حكام اليمن الجنوبي السابق - أن بقائهم في السلطة ليس إلا مسألة وقت، وأن خروجهم منها أصبح أمرا حتميا. وكانت البدائل أمامهم تنحصر في: إما التراجع عن الوحدة، أو إعادة صياغة النظام السياسي الذي قامت عليه دولة الوحدة.
وهو النظام الذي قام على دمج الكيانين السابقين في دولة بسيطة تُحكم من قبل حكومة مركزية واحدة، وجميع السكان والمحافظات لديهم مركز قانوني وسياسي واحد. وهو ما يعني بأن الجنوب ليس له أي مركز قانوني أو سياسي خاص. ووفقا لذلك؛ فإن السلطة تئول إلى من يفوز بالأغلبية في الانتخابات.
وبما أن سكان الشمال أكثر من خمسة أضعاف سكان الجنوب؛ فإن كل الاحتمالات كانت تُرجح فوز الطرف الذي يمثل الشمال بالسلطة الكاملة وفق ذلك النظام. وقد أكدت انتخابات 93 البرلمانية هذه النتيجة، حين لم يحصل الحزب الاشتراكي فيها إلا على 18% تقريبا من مقاعد مجلس النواب، وهي النسبة التي تقارب عدد سكان الجنوب.
وللخروج من هذه المعادلة؛ طالب الحزب الاشتراكي بعد انتخابات 93، بشكل غير مباشر، بتعديل النظام السياسي، وتغيير شكل الدولة، تحت حجة تطوير وإصلاح منظومة الحكم.
وقد أثمرت تلك المطالب بعقد الحوار الذي تم تحت أسم لجنة الحوار الوطني، والتي خرجت بوثيقة العهد والاتفاق، وهي الوثيقة التي تولت تعديل النظام السياسي وشكل الدولة.
ففي هذه الوثيقة؛ تم تبني نظام حكم قريب من النظام البرلماني، من خلال نقل الكثير من السلطات من مجلس الرئاسة، والذي كان يهيمن عليه الرئيس صالح المنتمي للشمال، إلى مجلس الوزراء، الذي كان يترأسه حيدر العطاس المنتمي للجنوب. وتم التعديل في شكل الدولة لتصبح قريبة من الدولة الفدرالية، رغم أن الوثيقة لم تذكرها بالاسم.
وحين فشل الحزب الاشتراكي في تعديل النظام السياسي بحسب وثيقة العهد، بسبب حرب صيف 94، التي اندلعت بعد التوقيع عليها بعدة أشهر، لجاء إلى الخيار الأخر وهو الانفصال، إلا أنه فشل في تحقيقيه بعد أن هُزم بشكل كامل في تلك الحرب.
وعقب تلك الحرب تراجعت المطالب بتغيير شكل الدولة والنظام السياسي، إلا أنها تصاعدت من جديد بعد أن لملم الحزب الاشتراكي نفسه واستعاد بعض من عافيته. غير أن تلك المطالب كانت تُغلف بستار من الحيل والعناوين الضخمة، ففي البداية لم يكن الحزب الاشتراكي يأتي على ذكر الفدرالية، إلا فيما ندر، وكانت الشعارات التي يرفعها تتحدث عن الحكم المحلي والنظام اللامركزي. ولم يتم الحديث عن الفدرالية بشكل كثيف إلا في المرحلة التي أعقبت الثورة على نظام الرئيس صالح.
ففي تلك الفترة تصاعد الحديث عن الفدرالية وميزاتها، وتم تحميل الدولة البسيطة والمركزية السياسية والإدارية كل مشاكل اليمن، لتصبح الفدرالية، لدى الاشتراكي والقوى السياسية، والنخب الفكرية التي تبنتها، بمثابة الحل السحري لكل مشاكل اليمن.
والفدرالية التي كان يطرحها الحزب الاشتراكي في تلك الفترة لم تكن واضحة المعالم، فقد اكتفى الحزب بالتركيز على إظهار عيوب المركزية والدولة البسيطة، وميزات النظام اللامركزي، وقد أتضح لاحقا أن كل ذلك لم يكن سوى تورية مقصودة، وحيلة قُصد بها التهيئة النفسية والسياسية لفكرة الفدرالية. وقد أتت تلك الحيلة أكلها؛ فما أن انعقد مؤتمر الحوار حتى كانت الكثير من النخب السياسية والفكرية اليمنية قد وقعت في فخ الفدرالية وأصبحت مقتنعة وجاهزة لتقبلها.
وخلال مؤتمر الحوار بدأت الأوراق تتكشف شيئا فشيئا لتتضح الرؤية والقصد الحقيقي من موضوع الفدرالية، حين أعلن الحزب الاشتراكي رؤيته لحل القضية الجنوبية، والتي اشتملت على: تقسيم اليمن إلى إقليمين، شمالي وجنوبي بنفس حدود الدولتين السابقتين، ويكون لكل إقليم سلطاته التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، والسيطرة شبه الكاملة على موارده الاقتصادية، إلى جانب تشكيل مؤسسات حكم اتحادية مناصفة من سكان الإقليمين.
وهذه الصيغة للفدرالية هي أقرب ما تكون صيغة لاتحاد كونفدرالي، كون المحاصصة في المؤسسات، يستحيل نجاحها في دولة فدرالية، ولكنها تنفع في الاتحادات الكونفدرالية، والتي تتشكل من دول كاملة السيادة، تُدير كل دولة شئونها الداخلية بنفسها، فيما يبقى دور المؤسسات المشتركة محدودا، ولا يتعدى حدود التنسيق بين مؤسسات كل دولة.
وبعد أن طرح الحزب الاشتراكي رؤيته للفدرالية، تعامل الكثيرون معها بكثير من الريبة، وعدوها خطة لانفصال مرحلي للجنوب. وكرد فعل على ذلك؛ قام هؤلاء، وفي مقدمتهم حزبي الإصلاح والمؤتمر، بتبني حيلة مضادة تمثلت في تشجيع عدد من أعضاء مؤتمر الحوار المنتمين لمحافظات حضرموت وشبوه والمهرة، بالإعلان عن قيام الإقليم الشرقي داخل مؤتمر الحوار. وقد كان الهدف من إعلان قيام هذا الإقليم تفكيك رؤية الحزب الاشتراكي والمشروع الانفصالي في الجنوب.
وبالتوازي مع تلك الحيلة، وتطويرا لها؛ اقترحت تلك القوى قيام دولة اتحادية من ستة أقاليم. وتم التشبث بهذا المقترح خلال النقاشات التي تمت فيما عُرف بلجنة أل (16) الخاصة بحل القضية الجنوبية. وهي النقاشات التي فشلت في التوصل إلى أي حل وسط بين فكرة الفدرالية من إقليمين أو ستة أقاليم.
وإزاء ذلك؛ تدخل الرئيس هادي والمبعوث الأممي جمال بن عمر، وانحازوا إلى خيار الستة الأقاليم، بعد أن أدركوا استحالة تمرير فكرة الإقليمين في المؤتمر. وهو الأمر الذي كان يعني أما فشل المؤتمر وتعليق جلساته، أو الاستمرار في انعقاده إلى أجل غير مسمى، وكل ذلك يعني تهديد لسلطة هادي الهشة.
وقد أدى انحياز الرئيس هادي لفكرة الستة أقاليم، إلى خلاف بينه وبين الحزب الاشتراكي، ومحمد علي أحمد - الذي احضره هادي ليمثل الحراك الجنوبي - حيث اعتبروا انحيازه ذاك خروجا على تفاهمات سابقة بينهم وبينه لتأييد فدرالية الإقليمين، والذي يبدو أن الرئيس هادي كان قد تفاهم معهم عليها.
وفي الأخير تم اعتماد حيلة الستة الأقاليم من قبل اللجنة الصورية التي شكلها هادي، لتصبح خيارا نهائيا للجنة صياغة الدستور التي شكلها هادي وتخضع لسلطته المباشرة.
كشف التحليل الذي أوردناه عن رداءة الطبقة السياسية اليمنية في تعاملها مع القضايا المصيرية. فالحزب الاشتراكي برهن على أنه لا يزال حزبا جنوبيا خالصا، ولا يملك مشروعا لحل مشاكل اليمن، وكل اهتماماته منصبة على الجنوب.
فالرؤية التي قدمها لحل القضية الجنوبية، تهدف إلى تعزيز حصة الجنوب في السلطة والثروة بأساليب بدائية تتناقض وأسس قيام الدولة الحديثة، والتي تقوم على المواطنة المتساوية. كما أن الحزب الاشتراكي كشف من خلال طرحة لفدرالية الإقليمين عن قراءة ضعيفة للخارطة السياسية اليمنية؛ إذ ما كان ينبغي له أن يُقدم على طرح مقترح لا يحمل أي فرصة للتحقق، فالحصافة السياسية توجب عليه أن لا يُقدم على طرح مقترحات تعود بالضرر عليه.
فمقترح الفدرالية من إقليمين لم يكسبه أي شعبية بين الانفصاليين في الجنوب، كما أنه قد خسره الكثير من الشعبية لدى الوحدويين في الشمال والجنوب.
أما الأحزاب الأخرى، وتحديدا حزبي الإصلاح والمؤتمر، فقد برهنا على أنهما لا يمتلكان روية واضحة وثابتة من القضايا المصيرية، فتعاملهما مع قضية بهذه الخطورة عبر ردود الفعل، وعن طريق الحيلة؛ برهنا على درجة من الضعف والاستهتار بمصير الدولة، وسوء تقدير للأمور.
فقد كان ينبغي عليهما أن يتمسكا بمواقف ثابتة من قضية الوحدة، وفق ما يعتقدان بأنه صواب، ويخدم المصلحة العليا للدولة، بدلا من مسايرة الآخرين والمزايدة عليهم في موضوع الفدرالية.
ففدرالية الستة الأقاليم التي تبنياها هي الخيار الأكثر سوءاً من، فدرالية الإقليميين، ففدرالية الإقليمين، رغم كل مساوئها، تحمل رؤية وأهداف واضحة ( الكونفدرالية أو الانفصال) أما فدرالية الستة أقاليم فأنها لم تكن سوى ردة فعل متسرعة اتخذت دون رؤية أو هدف - كما يقول الاشتراكي وهو محق في ذلك - ومحصلتها الأكيدة والواضحة دولة فاشلة يكتوي بنارها جميع اليمنيين.
فالفدرالية في ظروف اليمن الحالية ليست إلا صيغة للفوضى والتفتيت، وهي حقيقة يدركها كل من لها دراية عادية بأوضاع اليمن، وحتى الحزب الاشتراكي صاحب فكرة الفدرالية أعلن عن مخاوفه من فدرالية الستة أقاليم، باعتبارها ستؤدي إلى تفتيت اليمن والجنوب تحديدا – مركز اهتمامه الأول – وهو بذلك يعترف ضمنيا بأن الفدرالية وسيلة لتفتيت الدولة.
أما أصحاب الحيلة المضادة (الإصلاح ، المؤتمر) فإنهم حتى فترة قريبة كانوا يعتبرون الحكم المحلي خطرا على الدولة، فيما كانت الفدرالية بمثابة كارثة، وتحول موقفهم باتجاه تأييد الفدرالية لم يتم بناء على قراءة موضوعية جديدة للواقع اليمني، وإنما كرد فعل لموقف الأطراف الأخرى، والخضوع لضغوط الرئيس والعالم الخارجي.
أن الفدرالية التي يتم "تكعيف" اليمنيين بها ستضيف لليمن مشكلة جديدة إلى جانب كومة المشاكل التي يعاني منها، كما أنها لن ترضي لا دعاة الوحدة ولا الانفصال.