أرشيف الرأي

الاصلاح المالي المرتقب: الخروج من عنق الزجاجة

تضمن خطاب الرئيس هادي بذكرى الـ24 للوحدة اليمنية قضايا مهمة وحساسة تباينت ردود أفعال قطاعات المجتمع المختلفة نحوها تباينا واضحا بحسب فهمهم لها وطبقا للمصالح المرتبطة بها من بينها الحرب على الإرهاب ، والتصدي للرهاب الاقتصادي والعجز الماحق الذي يكتنف موازنة الحكومة وهو العجز الذي يكاد يهدد الدولة بالإفلاس المالي الكامل.

كنا قدحذرنا حكومة الوفاق منذ لحظة تشكيلها من مغبة الاستمرار في هذا الانفاق العبثي بموارد المجتمع المحدودة والذي يقود إلى ضائقة مالية خطيرة. اليوم سوف نعرج على الرسائل ذات الاهمية القصوى التي صدحت فيخطاب رئيس الجمهورية والحكومة الاسبوع الماضي تجاه العجز المالي للموازنة ، والرهاب الاقتصادي المتولد عنه ، ونترك قضية الحرب على الإرهاب على أهميتها للمختصين في الشأن الامني والعسكري ، مع إدراكنا للعلاقة الوثيقة بتمويل العمليات العسكرية الخاصة بمكافحة الارهاب بمشكلة موازنة الدولة.

في تذكير مستمر ومعبر للأرقام البليغة والمؤلمة عن الاقتصاد والمجتمع اليمني ان أكثر من نصف سكان اليمن يقبعون تحت خطوط الفقر الوطنية وأكثر من ثلث قوة العمل تحاصرها البطالة وذلك بفعل الكساد الاقتصادي وتباطؤ النمو الاقتصادي وتحيزّه ضد الفقراء واعتماده بدرجة أساسية على نمو قطاع النفط والغاز وهو القطاع كثيف رأس المال ، وضعيف التشغيل. فهذا القطاع يولد نحو 22% من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية ولا يشغل سوى 0.4% من قوة العمل وفي المقابل لا يولد قطاع الزراعة الذي يعمل فيه نحو 32% من قوة العمل اليمنية سوى 14% من قيمة هذا الناتج كحد أقصى.

التهديدالجدي اليوم للاقتصاد اليمني وموازنة الدولة بشكل خاص هو فياعتمادهما بشكل رئيسي على مصدر واحد هو قطاع النفط والغاز وهو القطاع الذي يتراجعإنتاجه بشكل مستمر وحاد ومهدد بالنضوب خلال السنوات القادمة دون أن تفكر الحكومات المتعاقبة منذ قيام الوحدة بهذه العاقبة المدمرة والعمل على تنمية قطاعات اقتصادية إنتاجية متنوعة قابلة للديمومة. وها نحن نشهد اليوم أن ذلك النهج الاقتصادي البليد واللامبالي يكلفنا اليوم ثمنا باهضا ، بحيث بلغ عجز موازنة الدولة اليوم نحو 10% وهو عجز خطير يهددها بالإفلاس ، ويدفع امة بكاملها رغم مواردها الوفيرة الكامنةللبحث عن موارد خارجية للإنقاذ والتسول لدى الحكومات الأجنبية مقابل ثمن باهض يستقطع من السيادة الوطنية. وعلى الرغم ان هناك مواردا مالية متاحة كبيرة كفيلة بسد هذا العجز وتكفينا شرور التسول ، إلا أنها تبدد بطريقة غير اقتصادية وعبثية ومن ضمنها التهريب الجمركي والتهرب والتحايل الضريبي ، ودعم المشتقات النفطية ، والموظفون الوهميون في قطاعي الخدمة المدنية والعسكرية ، والاسراف الشديد في الانفاق الحكومي الترفي ، والفساد الذي يزيد الطين بلة.

تنفق الحكومة ما بين 25-30من موازنتها السنوية على دعم المشتقات النفطية وهو ما يعادل 3% من قيمة الناتج المحلي الاجمالي وأكثر قليلا.يعادل هذا الدعم كل ما تنفقه الدولة من موازنتها على كل من قطاعات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والشئون الاقتصادية الحيوية كالصناعة والزراعة مجتمعة. هذا الدعم إن هو إلا أداة بليدة لدعم الفقراء ، أو هكذا يزعم المنافحون.

إذ أن نحو 80% من هذا الدعم لا يذهب إلى الفئات المستهدفة بل إلى المهربين ومجموعات المصالح الطغاة. لا يكتفي الدعم بالحاق الضرر البالغ بنسيج المجتمع من خلال تعزيز وتعظيم عدم المساواة ، بل ويساهم بشكل حاد في عدم الكفاءة الاقتصادية عبر سلسلة مترابطة من عمليات الانتاج والتخصيص والتوزيع والاستهلاك.

ويطلق للسوق السوداء العنان ، ولعفاريتها منأبطال التهريب والغش والفساد والافساد اليد الطولىويموضع مجموعات المصالح تلك في بنية المجتمع بشكل يهددالاستقرار وعملية التغيير المنشود.

يذهب 70% من هذا الدعم إلى الديزل الذي يستورد من الخارج يأتي بعده البترول (الجازولين) بنسبة 14% ، يليه الغاز المسال بنسبة 11% وتظل النسبة المتبقية بحدود 5% من نصيب وقود الطائرات والكيروسين. الديزل وهو اكثر المشتقات النفطية الذي نستهلك منه سنويا 4 مليارات ليترو2 مليار لتر وأكثر قليلا للجازولين ، أما وقود الطائرات فان الاستهلاك يقدر بنحو 1.4 مليار لتر.

لاشك إن إصلاح هذا القطاع ملح وضروري لتأمين الكفاءة الاقتصادية والحيلولة دون وقوع الانهيار الاقتصادي وردم بؤر الفساد المرتبطة به ولكنه بالمقابل يحتاج إلى أن تكون القرارات المرتبطة مدروسة اقتصاديا وعلميا.

القرارات الاعتباطية والانفعالية دائما ما تكون مكلفة.فالقرار الانفعالي الذي اتخذته حكومة الوفاق لحظة صعودها إلى منصة إدارة الدولة بخفض سعر "دبة البترول" من 3500 ريال إلى 2500 ريال وهو السعر الذي كانت (حكومة مجّور) قد اتخذته في نهاية 2010 مطلع 2011 ، كلفالبلادحتى الآن مبلغا مهدورا بنحو 300 مليار ريال ، وهو مبلغ يساويما تكبدته اليمن خلال نفس الفترة من جراء أعمال التخريب لأنابيب النفط والغاز وأبراج الكهرباء ،أوما يعادل ميزانية قطاع الصحة البائس بأكمله لمدة ثلاث سنوات وهي الآن ربما تعض أصابع الندم على ذلك.

لا بد أن نعرفأنه من أجل تدخّل ناجع أن40% من استهلاك كافة انواع الوقود يستأثر به قطاع النقل وهو القطاع المرتبط مباشرة بتكاليف الانتاج في القطاعات الاخرى كالزراعة والصناعة والخدمات بنسبة 20%،14% و8% على التوالي. 30% من مجمل المشتقات النفطية يستهلكها مباشرة قطاع الصناعة ، و12% تستهلكها الزراعة.إما نصيب الأسرة المعيشية فهولا يتعدى 10% تقريبا من الاجمالي الكلي لاستهلاك المشتقات النفطية. لابد من أخذه هذه المعطيات في الاعتبار عند اتخاذ القرارات الصائبة والملحة لإصلاح موازنة الدولة ، ونقترح التالي:

1. تحديد القطاعات والفئات الاجتماعية التي سوف تحتاج تدخل مباشر لحمايتها من الضرر عند اتخاذ قرار رفع الدعم ، وأن يكون هذا التدخل مبنيا على أسس ومرجعيات اقتصادية وعلمية صلبة.

2. أن يتم تحديد حجم الوفورات بشكل علني وشفاف وتخصيصها كالتالي: ثلث لتطوير الهياكل الاساسية كالتعليم والصحة والخدمات الاساسية الضرورية الأخرى كالأمن العام ، وثلث لحماية الفقراء وأصحاب المزارع الهامشية ،وثلت لدعم القطاعات الاستثمارية والحيوية.

3. تشكيل هيئة رقابة وطنية من قادة الاحزابومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني إلى جانب المؤسسات الدستورية والحكومية للإشراف على طريقة إدارة تحقيق الوفورات وطريقة استخدامها والرقابة على الأسعار.

4. يرافق ذلك إصلاح هيكل جهاز الخدمة المدني والعسكري والتخلص الفوري من الموظفين الأشباح الذي يقدر عددهم بنحو 400 الف موظف والذين يكلفوا موازنة الدولة نحو 120-150 مليار ريال سنويا.

5. ترشيد الانفاق الحكومي إلى أقصى درجة ممكنة ، وخاصة شراء السيارات والأثاث والمكاتب ، والمشاركة في المؤتمرات الخارجية . وفي سبيل تامين مساندة اجتماعية حقيقة وبناء جسور الثقة مع فئات الشعب ، يتم سحب جميع السيارات الفارهة والغالية الثمن التي صرفت لموظفي الدولة في الجهازين المدني والعسكري وبيعها بالمزاد العلني للجمهور وتحويل مواردها لخزانة الدولة ،وصرف سيارات رخيصة واقتصادية بدلا عنها دون تمليكها ، مع محاسبة الفاسدين ونشر ذلك على الملأ.

6. البدء الفوري بوضع برنامج إصلاح للهيكل الضريبي والجمركي الذي من شأن إصلاحهما أن يوفر على المدى المتوسط والطويل موارد ضائعة تقدر بنحو 500-600 مليار ريال سنويا.

تنفيذ الاصلاح المالي بكامل عناصره على نحو جاد وفعال وكفؤ سوف يوفر على اليمن نحو تريليون ونصف تريليون ريال سنويا تقريبا ، وهو ما يعادل 70-80 من إجمالي موازنة الدولة في الوقت الراهن ، ويعفينا التسول من الآخرين. ولكن يقتضي البدء فورا بالبنود المتاحة على المدى القصير وهي الموظفون الأشباح والدعم وترشيد الانفاق وتضييق الخناق على الفساد. هذه البنود العاجلة يمكن ان توفر ما بين 600-700 مليار ريال سنويا.

زر الذهاب إلى الأعلى