خلال الشهور الماضية غطت أخبار الأحداث الأمنية القادمة من اليمن على ملف التطور السياسي، طاوية تحت عباءتها الكثير من الجهود التي بذلت وما زالت تبذل ممن يعملون في صمت لإنجاز عملية التحول السياسي في البلاد.
واستمرأ الكثير من الكتاب تناول الصورة القاتمة التي تنبعث من بين دخان السيارات المفخخة وركام أنابيب الطاقة المتفجرة، دون الإشارة إلى التقدم الحاصل في المسار السياسي.
فبعد ما حدث مطلع العام 2011 في اليمن، على خلاف حول تسميته بين من يرى أنها كانت أزمة سياسية، ومن يقول إنها كانت ثورة شعبية، تندرج ضمن سلسلة ثورات الربيع العربي، وبعد شهور من المظاهرات وأعمال العنف، وقع الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح على المبادرة الخليجية في العاصمة السعودية الرياض في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، وبحضور الملك عبدالله بن عبدالعزيز وممثل الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص إلى اليمن جمال بن عمر، وكذا الدكتور عبدالمجيد الزياني أمين عام مجلس التعاون الخليجي، وعدد من المسؤولين ذوي العلاقة.
شكل التوقيع على المبادرة الخليجية مخرجاً من عنق الزجاجة الذي وصلت إليه البلاد بعد سلسلة من الأحداث الأمنية التي كان من أهمها ما جرى يوم جمعة الكرامة في 18 اذار/مارس 2011، حيث قتل ما يزيد على خمسين من المتظاهرين بالقرب من جامعة صنعاء، وأتهم قادة المتظاهرين الأجهزة الأمنية بتنفيذ الجريمة، فيما تبرأت أجهزة النظام السابق من ذلك. كما أن محاولة اغتيال الرئيس السابق علي عبدالله صالح بتفجير جامع دار الرئاسة التي تمت في حزيران/يونيو عام 2011 كانت مؤشراً خطيراً على ضرورة التراجع عن الحافة التي وصل إليه الوضع اليمني الذي كان – ولا يزال – مهدداً بالانفجار.
بعد كل ذلك كان لا بد للفرقاء من التوجه إلى الرياض للتوقيع على المبادرة الخليجية، وهو ما تم بالفعل كما أسلفنا.
وبعد التوقيع، بدأت مرحلة أخرى مهمة على صعيد عملية التحول السياسي، حيث جرت انتخابات توافقية فاز فيها نائب الرئيس اليمني سابقاً، والرئيس الحالي عبدربه منصور هادي، في 18اذار/ مارس 2012، حيث جرى حفل تسليمه السلطة بعد ذلك بأيام في دار الرئاسة بصنعاء.
وبعدها بدأت مرحلة شاقة من العمل للتهيئة للحوار الوطني الشامل، وذلك بتشكيل اللجنة الفنية للإعداد والتحضير للحوار الوطني التي صدر بها قرار جمهوري في تموز/يوليو 2012، وقامت اللجنة بجهود شاقة للإعداد للحوار، والتحضير للوائح الداخلية التي تحدد سيره. وتم خلال هذه الفترة التواصل مع كافة الفرقاء السياسيين في الداخل والخارج لدعوتهم للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، وتم اقناع قطاع كبير من الحراك الجنوبي بالمشاركة في المؤتمر بعد أن تم اعتماد مبدأ المناصفة في قوام أعضاء الحوار بين الجنوبيين والشماليين. غير أن المعارضة الجنوبية في الخارج لم تشارك بمجملها في المؤتمر وإن رحب غالبيتها بالحوار، في حين شارك البعض الآخر، كما تم اقناع الحوثيين بالمشاركة بعد أن ضمنوا عدداً من مقاعد الحوار أكثر مما يتناسب مع حجمهم على الساحة السياسية والشعبية.
وفي 18 اذار/مارس 2013 بدأت أعمال المؤتمر الذي استمر إلى نهاية العام، وخرج الفرقاء السياسيون بعدد كبير من المخرجات التي تضمنتها وثيقة الحوار الوطني الشامل، والتي من المفترض أن تشكل محتوى الدستور الجديد للبلاد الذي تعمل على إعداده لجنة صدر قرار جمهوري بتشكيلها في اذار/مارس الماضي. ويجري العمل بشكل حثيث داخل هذه اللجنة التي تستعين بخبرات دولية في صياغة الدساتير وعلى الخصوص من الجانب الفرنسي، الذي يسهم بشكل جيد في اسداء المشورة فيما يخص الصياغات والتوافق مع القوانين الدولية، بشكل لا يؤثر على المحتوى الأساسي للدستور في خصوصيته اليمنية وبعديه العربي والإسلامي.
ومن المتوقع أن تنجز لجنة الصياغة مشروع هذا الدستور في نهاية تموز / يوليو القادم، حيث سيحال بعد اتخاذ بعض الاجراءات في البرلمان على الشعب اليمني للاستفتاء عليه، وفي حال تم الاستفتاء بنعم للدستور، فإن اليمن سوف يدخل مرحلة جديدة من التغيير السياسي، حيث سيقر الدستور «الفيدرالية» شكلاً للنظام السياسي في البلاد، والأقاليم شكلاً للنظام الإداري والاقتصادي.
وعلى الرغم من أن الكثير من اليمنيين ينظرون إلى أن الفيدرالية ليست الحل المناسب للمشاكل التي تراكمت بعد حرب صيف 1994 ، والتي أسهمت في تشكيل مناخ غاضب ومحتقن في بعض المناطق في جنوب البلاد، إلا أن آخرين يرونها أفضل الحلول المتاحة، أو الحل السيئ الممكن في ظل تزايد الاحتقان السياسي في البلاد. وقد صدر في وقت سابق من العام الحالي قرار جمهوري بتقسيم اليمن إلى أقاليم ستة: أربعة منها فيما كان يعرف بالشطر الشمالي من اليمن، واثنان في ما كان الشطر الجنوبي. ويأمل المتفائلون أن تؤدي هذه الصيغة إلى سحب البساط من تحت بعض القيادات المتطرفة في الحراك الجنوبي، التي تنادي بالعودة إلى حدود ما قبل عام 1990، وهو العام الذي تحققت فيه الوحدة اليمنية.
ومهما يكن من أمر، فإن نظام الاقاليم قد أقر على الرغم من أن الانتقال له لن يكون بين عشية وضحاها، ولكن في احسن الأحول فإن ذلك ربما يكون عقب الدورة الانتخابية الأولى التي ستجري فيها اول انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس الدستور الجديد.
وفي الوقت نفسه تقوم اللجنة العليا للانتخابات بالإشراف على مراجعة السجل الانتخابي وإصلاحه وتهيئة الأجواء فنياً وقانونياً للمضي نحو الانتخابات العامة والرئاسية المقبلة التي من المتوقع الا تأخذ أكثر من عام واحد من تاريخ قرار تشكيل لجنة صياغة الدستور في اذار/مارس الماضي، حال سارت الأمور على ما هو مأمول.
وعلى الرغم من بعض المعوقات التي تشير إليها تقارير مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، وعلى الرغم من الصعوبات الأمنية والانكماش الاقتصادي، إلا أن العمل الدؤوب الهادئ الذي لا تسلط عليه وسائل الإعلام الضوء، هذا العمل الذي يمثل محوراً في عملية التحول السياسي الحالية، يمضي بخطى واثقة نحو انجاز مهمة البناء الدستوري والقانوني، والأسس النظرية للعهد الجديد الذي من المفترض أن يدخله اليمن خلال الشهور المقبلة.