روى شفيق الحوت أنه ومحمود درويش شكّلا، بخطٍّ أحمر، أواخر الكلمات في خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 1974، غير أَن عرفات "لم يترك خطأً نحوياً إلا وارتكبه" في إلقائه ذلك الخطاب، الشهير والتاريخي.
يذكّر بتلك الواقعة البعيدة عدوان الرئيسين المصريين، السابق عدلي منصور، والجديد عبد الفتاح السيسي، (وإنْ بدرجةٍ أقل)، على اللغة العربية، في خطاباتهما، في مراسم أَداء الأخير اليمين واحتفال تنصيبه وتسلمه الرئاسة.
وأغلب الظن أَن من كتبوا الخطابات أَحسنوا الظن بمعرفة الرجلين باللغة العربية السليمة، فلم يضعوا لهما علامات الإعراب في أواخر حروف المفردات، فأَجرى الإثنان كثيراً من النصب والرفع والكسر في غير مواضعه.
ولقائل أن يقول إن هذه مسألة نافلة، ولا يحسن الانصراف إليها، إذ الأوْلى بإنعام النظر هو ما يجري في مصر من تردٍّ سياسي، واستسهالٍ في التعدّي على حقوق المصريين وكرامتهم، وتغوّلٍ للسلطة الأمنية، وانتعاش لقوى الثورة المضادة، ما يعني أنه أمرٌ غير ذي بال أن يُعتدى على أصول العربية ونحوها أَمام هذا كله وغيره.
لمن يرى هذا حقٌّ في أن يراه، ولكن، يلزم أن يعرف أن مسألة اللغة العربية في بلادها صارت "في صميم الأمن الوطني"، وقضية استراتيجية، بالنظر إلى الخراب الحادث بشأنها، والأزمة العظيمة التي تُغالبها على ألسنة أهلها، في دول الخليج والمغرب العربي مثلاً، وفي مصر التي نتذكّر أن عبد الوهاب المسيري رفع دعوى قضائية فيها، في العام 2008، على حسني مبارك، ورئيس الحكومة المصرية في حينه، أحمد نظيف، باعتبارهما مسؤوليْن عن قلة الاحترام في مصر للغة العربية، وشيوع ما سماه "هوساً تغريبياً" بشأنها.
ونظن أن المفكر الراحل، (هو أستاذ للأدب الإنجليزي بالمناسبة)، أشهر مبادرته تلك، صدوراً عن أن العربية هي اللغة الرسمية للدولة المصرية. ولا نظن أن عدلي منصور وسلفه محمد مرسي التفتا إلى شأنها البائس، تربوياً وتعليمياً وفي الاستخدام العام، فيما قراراتٌ لقمتين عربيتين، في الدوحة ودمشق، نصت على حماية اللغة العربية واحترامها في تشريعات مختصة.
وفي البال أن الرئيس التونسي، المنصف المرزوقي، طرح في قمة الدوحة، العام الماضي، مشروع "محراب اللغة العربية"، لجعلها قوام النهضة العلمية والتكنولوجية للأمة.
لا نظن أن لأي تشريعاتٍ وقراراتٍ وخططٍ وطنيةٍ من أجل إنقاذ اللغة العربية من أوضاعها الخطيرة، نفعاً، إذا كان رؤساء عرب، ثوريون ومنتخبون ومؤقتون ومنقلبون، يستهينون بها، من دون شعور بالحرج، وعلى الهواء مباشرة.
وإنْ من بين هؤلاء من يُغالي في تظهير حرصه على "لغتنا الجميلة"، كما فعل بشار الأسد، في خطاب تسلمه السلطة من نفسه عند بدء ولايته المنصرفة، قبل سبع سنوات، واستفاض في التشديد على وجوب انتشال اللغة العربية من حالٍ غير مرض في بلاده.
ونتذكّر كلامه ذاك بكاريكاتيرية، ونحن نتابع ما يقترفه من تحطيم في سورية، وأخذها إلى الجحيم الذي نرى. سورية التي صاغت السلطة فيها "خطة وطنية"(محمودةٌ والحق يقال) من أجل الحفاظ على العربية، في الفضاء الاجتماعي والمعيشي والإعلامي والتعليمي، فيما حاجة سورية نفسها شديدةٌ إلى خطة وطنية تحافظ على شعبها وناسها، وعلى كيانها ووحدتها.
ليست مصر في وارد أن تُحمى فيها اللغة العربية جيداً، ولا نظن أن الخطط والتشريعات والإجراءات في غير بلدٍ عربي، من أجل هذا الهدف الشديد الإلحاح، تجد سبيلها إلى التطبيق الجدّي، وإلى متابعة تنفيذها. وثمّة، للحق، جهود طيبة ومخلصة في هذا الشأن، في الأردن والإمارات والمغرب ولبنان، مثلاً، غير أن المشهد العربي العام لا يؤشر إلى ما هو مطمئن ومرضٍ ومريح، ومن أدلة ذلك، ما سمعناه من شناعةٍ في الكسر والنصب والرفع، من عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي، في يوم التنصيب إياه.