قبل أكثر من عامين كان كاتب هذه السطور من معارضي علي عبدالله صالح وممن وقفوا طوال الاحتجاجات يطالبون بتغييره وحتى صعود هادي وما بعد صعوده وهو من أكثر من يقفون معه ويسعون لإنجاحه.
كنت كأغلبية اليمنيين يتوقعون من هادي أداء مسؤولاً، على الأقل، لكونه رجل إجماع ولكون الناس حريصين على إنجاحه في ظل اعتقادهم أن الرئيس السابق سيحاول بكل الطرق إفشاله..
مرت الأيام.. وكانت هناك خطوات لها حسابها في الميزان الاستراتيجي وبعد النظر من زوايا أشمل وأعمق تبين أن هادي عكس ما كان الناس يأملون، وهذا ما أوضحه في التالي:
أولاً. قَبِلَ هادي بحوار يضم القوى السياسية مع مكونات مسلحة ومكونات تطالب بالانفصال، حوار دون سقف.. يعني أن ما يجري هو التقريب بين الدولة واللادولة وبين القانون واللاقانون. فكيف تجمع مكونات سياسية قامت بموجب شروط وقواعد بجماعات مسلحة أو ترفع مطالب خارج القانون؟. كان يمكن الحوار بين القوى السياسية ثم تشكل هذه القوى لجنة للحوار مع الجماعات المسلحة والانفصالية لمناقشة مطالبها وما يمكن تحقيقه.
الذين يفكرون بطريقة عاطفية تجاه الجماعات المسلحة والانفصالية ولديهم رؤية بمقاس محدود لا يضعون لها بعدها الاستراتيجي ولا يدركون ماذا يعني هذا؟
من يقف مع المعنى العميق للدولة يجد أن هذا الأمر مسار على الضد من البناء وهو بداية للتراجع عن الدولة وليس العكس، فأي حوار مع من يحمل السلاح ويطالب بتكسير الوطن يجب أن يكون هدفه الأول والأخير نزع السلاح ومعالجة المظالم وليس تثبيتها.
ثانياً. قَبِلَ الرئيس هادي دخول الحوار على أساس "شمال" و"جنوب" وهذا من الناحية الاستراتيجية خطوة في شطرنج تعني التراجع عن الوحدة للوراء إلى ما قبل 1990، على الأقل من الناحية الرسمية. المهمة الرئيسية لأي سلطة هي أن تكون شديدة "الحساسية" تجاه أي فرز من هذا النوع، فكيف عندما يتم تعميده رسمياً؟ ومتى عاهد الشعب على هذا؟
ثالثاً. اطلعت على مئات الكتب والأبحاث وقضيت شهوراً أتقصى في موضوع "الفيدرالية" و"الأقاليم" لأصل إلى إجابات علمية لا يختلف عليها عاقلان متخصصان، خلاصتها بأن الأقاليم انتحار معلوم النتيجة سلفاً تدفع إليه قوى دولية، وفي الحقيقة لن يؤدي هذا المسار إلى دولة اتحادية أو أقاليم وهذا الكلام وفقاً لبديهيات ومعلومات مبنية على أساس الواقع والتجارب.
عندما يكون واضحاً لديك هذا الأمر؟ كيف سيكون موقفك وأنت ترى رئيس الدولة الذي صفقت له يدفع بالبلد إلى المجهول؟ عندما يقول في خطاباته معلومات مزيفة قد يكون مضللاً بها وقد يكون قاصداً.. لكنها قضية مصيرية تتعلق بالأرض والشعب والدولة وليس بالسلطة وتتطلب أن تكون مدركاً كافة جوانبها.
رابعاً. عند البحث في تجارب الدول واللعبة الدولية وصلت لحقائق أوضحت لي أن الصراع المحلي كان فخاً كبيراً، وأن ما كنا نتهم فيه "عفاش" من تخريب أو عراقيل، لم يكن دقيقاً بل كانت ترجحه الظنون القائمة على الموقف السياسي والتعبئة وعلى الشائعات المدروسة التي تسعى لإدامة الصراعات المحلية.
خامساً. اتخذ هادي قرارات تثبت أنه قوي بالفعل وأنه لا يخشى القوى التي يتوهم الكثيرون أنها تعرقله. الصادم عند هذه المفاجأة أن الخطوات التي يتخذها تدميرية للوطن معها تنسى قصة العراقيل.. وتتحول عرقلة هادي إلى أمنية. فإذا كان الرئيس هادي يشجع ويدافع عن التقسيم ويدّعي أنه تقسيم إداري وهو معروف بمناهج الدنيا أنه تقسيم سياسي وغير ذلك. يصبح الوقوف ضده واجباً وطنياً.
سادساً. كان المتوقع من الرئيس هادي أن يؤثر في ختام الحوار ويدفع للتراجع عن المسار التفكيكي تحت شعارات براقة وبأنه لن يسمح للعبة أن تتم حتى النهاية، لكنه وفي آخر أيام الحوار ضغط بنفسه وفي منزله على القوى لتوقع على وثيقة مدمرة، وكتبتُ قبلها إن التوقيع سيضع اليمن تحت تهديدات خطيرة تمهد لنكبة من نوع الدول العربية المنكوبة وليس مجرد أزمة.
كيف يشجع الرئيس الذي بايعه الملايين على الحفاظ على الوطن تقسيمه على أساس مناطقي ومساواة جنوب وشمال وهو كأعلى مسؤول في الدولة يفترض أن يكون أكثر من يتحسس من ذلك، ويحافظ على المساواة وعلى الهوية الوطنية ويعالج المظالم من بوابات عديدة لا تقود البلد إلى الجحيم.
سابعاً. لا يوجد رئيس في العالم يحترم بلده يبارك إدخالها تحت "الفصل السابع". ما علينا من السُذج الذين سيدافعون. الثابت لدى كل دول العالم ولدى كل خبراء السياسة أنه فخ يصعب الخروج منه بسهولة، ولا يقارن أبداً مع وجود تهديد محلي يمكن حله في نهاية الأمر حتى وإن استمر سنوات.
ثامناً. تساهل الرئيس هادي ومن معه بالمزيد من تسلح الجماعات المسلحة وتوسعها بطريقة تنذر بسيناريوهات غرق في الصراعات والنكبات على طريقة الصومال أو طائفياً على طريقة العراق أو غير ذلك من النماذج المدمرة. يتأكد لديك بعد النظر العميق في التجارب والسياسات الدولية أن الذين يتظاهرون بصورة منقذين وداعمين دوليين هم أطراف غادرة لا تريد للبلد أقل من التقسيم ثم التقسيم والاحتراب ثم الاحتراب والفقر ثم الفقر.
على أن هذا الكلام ليس من باب التشاؤم ولا التخويف، بل هكذا تقول التجارب وتكاد تتكرر الأساليب التي استخدمت في بلدان أخرى. فمثلاً يدفع ما يسمي "المجتمع الدولي" إلى الفدرالية، وهو بكله لو اجتمع لن يستطيع الرد على حقيقة أن هذا الخيار مخاطرة وأنه يحتاج إلى موازنة مضاعفة في مقابل أن البلد في أزمة اقتصادية خانقة. فهل هذه الدول حمقاء تجهل أسس وبديهيات إدارة الدولة؟ أم أنها تتعامل مع البلد كفريسة وتستغفل أهله الطيبين الذين لا يتخيلون الشر المضمر من قوى عالمية غارقة في دماء الشعوب؟
تاسعاً. إن الذي يريد أن يحافظ على الوحدة ويفرض هيبة الدولة ولكنه يلعب لعبة مؤقتة لا يتعدى خطوط معينة؛ فمن السذاجة الاعتقاد أن الرئيس هادي يضرب القوى ببعضها عندما يسمح بالحرب في عمران وصعدة ويسمح بتوسع الحوثيين. هذه لعبة تدمير الدولة وليس القوى، فالصراع بين القوى يمكن أن يكون على مستوى قُرى أو مناطق محدودة. أما عندما يتم التلاعب مع جماعة مسلحة تتوسع باتجاه صنعاء ويتم منحها الغطاء عن طريق تصوير ما يجري صراعاً حزبياً، فهذه ليست لعبة قوى، ولكنها لعبة تصعيد قوة طائفية على النمط العراقي ليتزحلق البلد إلى ما لا يُحمد عقباه ونكون أمام عراق ما قبل 2003 وعراق ما بعده!
ثمة عاصمة فيها ثلاثة مليون وثمة جماعة تصعد على صلة وثيقة بلعبة دولية. وهناك سبتمبر ومبادئ وأهداف ومخاطر لا يمكن أن يلعب بها رئيس يريد أن يحكم وأن تستمر الدولة. بالإضافة إلى أن الذي يريد أن يحارب هذه الجماعة المسلحة بعد استخدامها كما يزعم البعض، لن يسمح لها بالتعملق ولا بامتلاك أدوات استراتيجية، فضلاً عن ذلك لا يتم تدمير الجيش، فما هو الجيش الذي سوف يُستخدم لمواجهتها في حين يجري إضعاف منظم للجيش ونقل الألوية من محافظات ما يسمى "شمال" إلى ما يسمى "جنوب"، فضلاً عن أن القوى الواقعية المفترض أن يتم التعاون معها عند محاولة إعادة هيبة الدولة هي نفسها من يتم التحالف مع هذه الجماعة للقضاء عليها.
عاشراً. بالمقارنة بما خرج الناس لأجله ضد علي عبدالله صالح، فقد كان الاستفراد بالسلطة، التوريث، التلاعب بالأزمات بحدود يعتقد أنها تحت السيطرة، كان الناس يريدون الحفاظ على وحدة الوطن بطريقة تتلافى أخطاء الحاكم الذي لم يُحسن إدارة الدولة.
كان الخلاف كله يرتكز حول "السلطة"، طريقة إدارتها، الفساد، وغير ذلك. ولم نكن نختلف معه حول الوحدة أو حول هوية المجتمع الواحدة أو حول ثورة سبتمبر وأكتوبر، ولم نكن أمام شبح تشرذم البلاد إلى فتات والعودة إلى زمن الاستعمار والإمامة. فنحن وهو نتفق في المبادئ ونختلف في التطبيق والتنفيذ. لكن عندما نقف أمام هادي فقد جاء بأسوأ مما يمكن أن يطرأ على بال.
لقد فتح البلد للتدخلات الدولية لتعبث حتى تقضي على الدولة، وتقسمها إلى دويلات وشعوب وأقاليم وراح يسكت على مشاريع طائفية تهدد النسيج الاجتماعي ويمثل لها غطاءً من مؤسسة الدولة. وكان سلفه يسمح ببعض ذلك بحدود يعتقد أنها تحت السيطرة.
صحيح أن صالح تواطؤ مع توسع الحوثي الشهور الماضية لكنه لم يكن حينئذٍ رئيساً للدولة وقد فعل ذلك بدافع الانتقام ممن ثاروا عليه.. لكن المؤكد أنه يعرف بعض الأساسيات والمبادئ التي لا يفرط بها اليمنيون، يعرف بنسبة أو بأخرى عن سبتمبر.. ومن المؤكد أنه الهدف القادم للجماعات المسلحة إذا ما واصلت طريقها إلى صنعاء وتمكنت من ضرب خصومه الآخرين.
وبالمجمل،
وفقاً لما سبق، فإن جزءاً من الصورة الذهنية التي شيطنت الرئيس السابق مثلما شيطنت خصومه عند أنصاره، كان فتنة مدروسة وقعت فيها القوى السياسية التي تصارعت بالدولة وليس تحت سقفها، وهذا لا يعني التبرئة تماماً.
هادي لعب بملفات خطيرة تقضي على الوحدة وعلى المجتمع وتعيد الإمامة والاستعمار، وصالح فقط كان يريد السلطة وليس تدمير البلد بشكل كامل.
يمكن أن نلتقي مع صالح على قاعدة أن الجميع قد خسر وأن الماضي لن يعود ويجب الاستفادة من أخطائه وأن القادم الذي تصنعه السلطة المؤقتة يهدد الجميع. فما زال لديه أبناء وتاريخ والجميع في سفينة.
في المقابل، يبدو الاصطفاف إلى جوار هادي ليس أكثر من حماقة أو سوء حسبة، وهو الذي يعبث بالدولة وبالوحدة وبسبتمبر وأكتوبر ومايو وبالنسيج الاجتماعي وبكل منجزات قطعها اليمنيون خلال عقود قدموا ثمنها أجيالا من الشهداء والمخلصين وعانوا وقاسوا من أجل القضاء على مخلفات الماضي المرضية، كالجهل والمناطقية وغير ذلك.
هادي لا يتعامل مع أمن صنعاء ومخاطر تهدد الدولة بجدية، وإذا تم دعمه ضد أحد فمن المؤكد أنه سينتقل لداعميه فور الانتهاء وهذا ما أكدته تجارب أكثر من عامين. وبذلك لا يزال في بقاء صالح لخصومه خير وكذلك العكس إذا ترفع الجميع عن الأحقاد والثارات ونظروا إلى المخاطر التي أوشكت على التهام وطن. أما هادي وبهذا المسار يقوم بلعبة خطرة تهيئ للقضاء التام على الدولة وتسليمها للإمامة واللادولة. وإذا غيّر هذا الطريق وقطع أشواطاً فعلية يمكن إعادة النظر.