منذ بداية الربيع العربي تشيع وسائل الإعلام أن إيران تعد في مقدمة الرابحين من التحولات الكبرى التي شهدتها عدة دول عربية، والتي تسببت في تراجع قوى الاعتدال مقابل صعود تيار ثوري تغييري ينسجم مع توجهات طهران منذ الثورة الإسلامية في إعادة رسم خريطة المنطقة لصالح «المستضعفين ضد المستكبرين».
النجاحات المزعومة لإيران جاءت على حساب القوى الإقليمية الأخرى وأهمها السعودية التي بات عليها أن تمد يدها للتصالح مع إيران وأن تقبل بها كأهم لاعب إقليمي يتحكم في أبرز ملفات المنطقة.
هذه الصورة التي تحرص إيران على الترويج لها بمشاركة آخرين ليسوا بالضرورة راضين عن تنامي الدور الإيراني، بل هم على النقيض منزعجون منه ويرون في المشاركة في تهويله والمبالغة فيه وسيلة قد تدفع القوى العربية التقليدية للتحرك لاستعادة التوازن المفقود حسب ما يشاع.
الواقع أن انتصار إيران يبقى في إطار المزاعم والمبالغات ويستند إلى مظاهر تفوق محدودة جدًا. وهذا ما يظهر حين نستعرض أهم ملفات المنطقة الراهنة لنشخص حقيقة التحول في موازين القوة بعد الربيع العربي وهل هو لصالح إيران كما يشاع.
ولو بدأنا بالعراق فسنجد أن إيران تتمتع بنفوذ كبير يصل إلى حد الهيمنة على القرار السياسي، ولكن هذا الوضع لم يكن نتيجة للربيع العربي، بل سبقه بسبع سنوات تقريبًا حين تورطت واشنطن - التي كانت أحلام المحافظين الجدد توجه سياستها الخارجية آنذاك - في تفكيك الدولة العراقية وترك العراق أرضًا مشاعًا لإيران و{القاعدة} اللتين استثمرتا الانقسام الطائفي لدعم مشاريعهما التخريبية التي لا يزال الشعب العراقي يدفع ثمنها حتى اللحظة.
إيران استثمرت أيضا قابلية شخصيات شيعية سياسية للاحتواء جعلت منهم أدوات لنفوذها على حساب مصالح العراق. ولا شك أن هذا الوضع سيستمر لمدة قد تطول لكن سيبقى في حالة من عدم الاستقرار والفوضى الأمنية مما يحد من مكاسب إيران.
ولو تجاوزنا الثمن المعنوي حيث أصبحت واحدة من أهم الدول العربية تحت نفوذ إيراني، فإن الأثر الحقيقي لهذا النفوذ على مصالح السعودية يبقى محدودًا؛ فالعراق بالنسبة لدول الخليج التي تعد مجالاً حيويًا للمملكة كان مصدر قلق وإزعاج منذ ثورة 1958 وقد نجحت دول الخليج في استثمار طموحات قياداته وأبرزهم صدام حسين في جعل العراق منطقة عازلة. إذن النفوذ الإيراني في العراق لم يغير كثيرًا في موازين اللعبة بالنسبة للمملكة والخليج. ورغم الاستياء الشديد من هيمنة إيران واستعداد بعض النخب العراقية جعل وطنهم لعبة في يد طهران فإن مصالح المملكة الوطنية لم تتأثر ونفوذها لم يتراجع بسبب الوضع هناك.
وحين ننتقل من العراق إلى سوريا لا يمكن القول بأن إيران متفوقة رغم قدرة حليفها في الاستمرار في السلطة بعد أربع سنوات من الصراع المدمر. إيران هنا في موقف المدافع وليس المنتصر، وهي تدافع عن وضع خاسر؛ فالنظام السوري وبعد هذا التدمير الهائل ساقط لا محالة، وهي مسألة وقت ليس إلا.
إيران وبسبب تورطها المباشر في الصراع تدفع ثمنًا ماليا باهظا تجاوز مليارات الدولارات التي هي في أمسّ الحاجة إليها في ظل العقوبات الدولية التي ترضخ لها، كما تتورط مؤسساتها العسكرية بشكل رسمي في مستنقع اقتتال طائفي؛ حيث تناقلت الأنباء منذ فترة مقتل عبد الله إسكندراني أحد قيادات الحرس الثوري.
ولولا البعد الإنساني والعربي والأخلاقي الذي يحكم السياسة الخارجية السعودية لاستطاعت المملكة تحويل الصراع في سوريا إلى حرب استنزاف طويلة لإيران يمكن أن تهدد بقاء النظام الإيراني ذاته؛ حيث تزداد مشاعر الاستياء بين الشعب الإيراني من تورط بلادهم في حرب لا يرون أهمية حقيقية لها. باختصار، إيران في سوريا متورطة في مستنقع وليست منتصرة، والقول بأنها لا بد أن تكون طرفًا في أي حل لا يغير من هذه الحقيقة شيئًا.
ونأتي إلى لبنان حيث لم يتغير الوضع منذ اتفاق الطائف، فمعلوم أن إيران نجحت في استثمار قابلية نخبه السياسية للاحتواء، وهذا لا يقتصر على حسن نصر الله الذي تحول إلى أداة في يد طهران، بل يتجاوزه إلى زعامات أخرى لا تتحسس من منح ولائها لكل قوة إقليمية أو دولية راغبة على حساب وطنها.
هذا وضع ليس جديدا، وقد أصبح خاصية ثابتة في السياسة اللبنانية. وبالنسبة للمملكة فلا نرى أي خسارة لها في الوضع الراهن في لبنان لسبب بسيط جدًا وواضح للعيان، وهو أن هذا البلد تحول نتيجة موقف نخبه إلى ساحة للآخرين لتصفية حسابات تبقى محدودة في إطار اللعبة الكبرى في المنطقة. النخب اللبنانية تدرك وتعي تمامًا هذه الحقيقة، وهذا ما يقلص فرص أي طرف خارجي، وخصوصا إيران في تحقيق نصر كلي. ولو أن المملكة تجاهلت لبنان تمامًا، فلن يؤثر ذلك على موقفها الاستراتيجي أو مصالحها الوطنية.
وفي حال تجاوزنا الهلال الخصيب والشام فلا نجد لإيران سوى دور تخريبي يمارسه الحرس الثوري من خلال دعم فصائل وميليشيات ونخب تدين بولائها لطهران، ومثال على ذلك الدور التخريبي للحرس الثوري في اليمن من خلال الحوثيين، وكذلك محاولات قاسم سليماني المستميتة ولكن الفاشلة في زعزعة أمن البحرين الذي يظهر أنه تجاوز الأزمة وعاد إلى وضع ما قبل الربيع العربي، حيث تعاني البحرين مشكلة بحاجة إلى حلول جريئة تحقق السلام الأهلي وتفوت الفرصة أمام طهران لاستمرار في مشروعها التخريبي.
وفي هاتين الدولتين تحديدًا (اليمن والبحرين) تدرك طهران أن أي محاولة لإحداث تغيير حقيقي يعد مساسًا بأمن المملكة الوطني التي لن تترد في استخدام كل أوراقها للتصدي له بحسم وقوة.
وحين نتوجه بالنظر إلى بقية الدول العربية فلا نجد أي دور لإيران يشير إلى مزاعم التفوق الإيراني. ففي الأردن ومصر وشمال أفريقيا وحتى السودان تحافظ المملكة على علاقات متينة أقيمت على أسس عربية صلبة ممتدة عبر التاريخ، وعلاقات هذه الدول مع الآخرين خارج الفضاء العربي ومنهم إيران ورغم كل ما يشاع تنطلق من منظور الأمن القومي العربي، وقيادات هذه الدول وشعوبها تدرك القيمة الاستراتيجية للعلاقات مع المملكة، ولن تنجح إيران مهما حاولت في تغيير هذه الحقيقة.
والتاريخ خير شاهد على ذلك، فقد فشل مشروع تصدير الثورة الإسلامية إلى هذه الدول وبقية الدول الإسلامية حين كانت الثورة في أوجها واختفى أي أثر للتأثير الإيراني أمام تقدير راسخ للمملكة، وهذا بالطبع غير مستغرب بالنظر إلى قيمة المملكة الخاصة في محيطيها العربي والإسلامي.
البعض يشير إلى انفتاح دول الخليج على إيران بعد تسلم حسن روحاني السلطة، حيث تتكرر الزيارات والاتصالات، ويرى في ذلك مؤشرًا على نجاحات إيران، وهذا في ظني تقدير خاطئ؛ فهذه الدول التي تتواصل مع طهران رغبة في تحسين العلاقات مع طهران بعد سنوات من التوتر أثناء حكم أحمدي نجاد لا تتحرك من منطق إيجاد توازنات، بل نجدها في الوقت الذي تتواصل فيه مع إيران تعزز علاقاتها الراسخة مع المملكة إلى مستويات تنسيق استراتيجي يتجاوز الخليج العربي؛ كما يحدث مع الإمارات.
أما الكويت والبحرين فبينهما وبين المملكة ارتباط عضوي لا يمكن لأي علاقة مع إيران تغييره، أما عُمان فسياستها الخارجية الحذرة والمتوازنة لم تتغير منذ عقود، وحتى قطر ورغم توتر علاقاتها مع المملكة فهي تنطلق في انفتاحها على إيران من منظور استبدال طرف بآخر. إيران تدرك الرابطة العضوية بين كل دول الخليج التي تضع حدودًا لمستقبل علاقاتها معها.
وهم التفوق الإيراني على حساب السعودية يتأكد أيضا من خلال مقارنة سريعة لعلاقات طهران والرياض على المستوى الدولي؛ ففي حين تتمتع المملكة بحضور دولي فاعل وترتبط بعلاقات وشراكات مع كل دول العالم، نجد أن طهران تجاهد للخروج من عزلتها وتقدم التنازلات لإنهاء العقوبات الدولية التي فرضها المجتمع الدولي من خلال أربعة قرارات دولية، كما تخضع إيران لمراقبة دولية تحت مقرر خاص للأمم المتحدة يتابع أوضاع حقوق الإنسان، وهي تشترك في هذه العقوبة السياسية مع دول مثل إسرائيل وكوريا الشمالية وميانمار تتهم بانتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوق الإنسان.
وحتى على المستوى الاقتصادي نجد تفوقًا كبيرًا للمملكة على إيران سواء من حيث معدلات النمو أو الدخل أو حجم الاحتياطي الأجنبي.
إذن الصورة التي يراد رسمها عن تفوق إيراني مزعوم وتحقيق طهران مكاسب على حساب المملكة مبالغة ولا تصمد أمام الحقائق. وهذه المكاسب - إن صح تسميتها بذلك - بقدر ما تعكس حسن استثمار طهران لفرص مؤقتة، فإنها في الوقت ذاته نتيجة لتردد القوى الإقليمية الأخرى في استثمار فرص مماثلة، وإشكالية ترتيب أولوياتها، والأهم من هذا كله الانشغال المبالغ فيه بالإخوان الذين أصبحت مواجهتهم البوصلة التي توجه السياسة الخارجية بالكامل؛ وهو ما قيّد القدرة على الحركة في علاقاتنا الخارجية مع شركاء مهمين وفي مقدمتهم تركيا استنادًا إلى منطق تبادل المصالح.
ولعل أبرز مثال على هذه الإشكالية يظهر في اليمن، حيث تنمو قوة الحوثيين بشكل متواصل وبدعم من الحرس الثوري الإيراني - كما أعلنت الحكومة اليمنية أكثر من مرة - مقابل أن الرياض لم تنسق مع حزب الإصلاح، حيث الحوثيون يمثلون تحديا مشتركا. لذلك فإن هناك اليوم حاجة ماسة لتقييم هذه السياسة.
باختصار، لا تزال المملكة اللاعب الأول في المنطقة، والتحركات الإيرانية لن تؤثر على هذه الحقيقة، ولذلك فلا قيمة لكل هذا الحديث عن حاجة المملكة للمسارعة للتصالح مع إيران، فطهران هي من تحتاج إلى مد يدها للمملكة وليس العكس، فرغم قدرتها التخريبية من خلال قيادات حرسها الثوري فهي لن تنجح في تغيير موازين القوة بشكل حقيقي وليس وهميا.
التحدي الذي يواجه دور المملكة في المنطقة ليس في تحركات إيران، بل في قدرة الرياض على التركيز على منطقها الدبلوماسي التقليدي القائم على القراءة الدقيقة والمتأنية للتحولات في بيئتها الخارجية التي لا تترك مجالاً للعاطفة وردود الفعل المتسرعة التي باتت سمة للتحرك السعودي منذ بدء الربيع العربي.
المملكة بحاجة اليوم إلى صياغة ما يعرف بعقيدة السياسة الخارجية التي تأخرت كثيرًا رغم التحولات الكبرى التي كان لها أثر على المملكة بدءًا من انتهاء الحرب الباردة مرورًا بهجمات سبتمبر وانتهاء بالربيع العربي. هذه التحولات تستوجب التوقف وإعادة التفكير في الكثير من المسلمات والمنطلقات وتقييم القدرات والتحديات وترتيب الأولويات بدلاً من الانشغال بملاحقة مستمرة للأحداث دون وجود منظار دقيق يفرز الحقيقة من الوهم.