سخر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في حديث إلى البرنامج الصباحي على قناة CBS الأميركيّة، قائلًا: "عندما يكون هناك مزارعون وأطبّاء أسنان وأشخاص لم يسبق لهم أن قاتلوا، وهم الآن يواجهون حرب الأسد التي لا تعرف الرحمة، فإنّ فكرة أن هؤلاء كان يمكن لهم أن ينتصروا في لحظة، ليس على الأسد وحده، بل كذلك على جهاديين، عديمي الرحمة فائقي التدريب، إن أمددناهم بالأسلحة، هو من محض الخيال".
فاجأ هذا الكلام كثيرين ممن فكّروا في الثورة السورية، بافتراضات مغلوطة، مفادها أنّ أميركا عدوّ لإيران. وحده من فهم حقيقة التعاون الأميركي-الإيراني الحثيث والمستمر على استعمار العراق منذ عام 2003، لتحويله إلى مستعمرة أميركية ونصف مستعمرة ثيوقراطية إيرانيّة، منذ ذلك الحين، وقبل ذلك التعاون الأميركي- الإيراني على استعمار أفغانستان منذ 2001، فهم مدى النفاق الذي كان يراق على أسماع العرب وأذهانهم، حول مواجهة أميركيّة-إيرانية مزعومة في سورية أو في لبنان.
تبعًا لهذه المقاربة الجيوستراتيجية، فإنّ وظيفة الحرب التي حصلت في لبنان عام 2006 كانت نزالًا موضعيًا إيرانيًّا-إسرائيليًّا، للتنافس على زعامة الإقليم.
وبهذا التحليل أيضًا، فإنّ ما حصل ويحصل في سورية منذ مارس/آذار 2011، خلف كلّ التصريحات والمسرحيات الهزلية "الدولية" التي تُصدّر إلى المنطقة العربية بأنّ ما يسمى "المجتمع الدولي" يقف مع الثورة السورية ضد النظام، لم يكن يغطي في الحقيقة سوى الاستماتة الأميركية-الإيرانية على الإبقاء على نظام الأسد، وذلك في وجه ثورةٍ لم تكن تناسب أحدًا من اللاعبين الكبار في العالم والإقليم، لا بل من المرجّح أنّ الأميركيين والإيرانيين لا يريدون أقل من الإبقاء على بشار الأسد (الشخص) في منصبه، إذا أمكن لهم ذلك.
لم يتعلّق الأمر، يومًا، بقلق أميركا من "العناصر المتطرفة" في سورية، وخوفها من وقوع الأسلحة في أيدي الإرهابيين، بل جلّ ما أرادته كان تصدير جهاديين، تربّوا تحت أعين نظام الاستعمار الأميركي-الإيراني الحالي للعراق منذ 2003، لتفخيخ ثورة السوريين التي لا يمكن كبحها. ويعرف العراقيون تمامًا الجرائم التي قام بها هؤلاء الوحوش المفبركون من المخابرات الأميركية والإيرانيّة ضد المقاومة العراقية قبل 2006.
لاقت إيران الولايات المتحدة في منتصف الطريق، وبتنسيقٍ بينهما، بدأت إرسال عسكرها من لبنان حتى العراق وأفغانستان، لمقاتلة السوريين الثائرين. وتبيّن في لبنان أنّ من كان يقول، يومًا، بفخر أنه جندي في خدمة ولاية الفقيه، يجب أن يقول لنا، اليوم، إنّ جيوش ولاية الفقيه نفسها تعلن، وبكل فخر، أنّها في خدمة الجيش الإمبراطوري الأميركي لمحاربة "الإرهاب" البوشي، ثمّ الأوبامي. ففي العراق اليوم، تساند الطائرات من دون طيار الأميركيّة التي تدار من صحراء تكساس "فيالق القدس" الإيرانية، وجنرالها قاسم سليماني وإرهابيي جيش المهدي لتصفية "التمرّد السنّي الداعشي" (كما تتفق القوتان الاستعماريتان على تسمية الثورة العراقية!).
وما تشير إليه التصريحات الإيرانية والأميركية هو أنّ الأمر سيتعداه إلى سورية. كان الأميركيّون والإيرانيّون، دومًا، حلفاء بالمعنى الجيوستراتيجي العميق للكلمة، لكنّ استغراب بعضهم ذلك، والتوسّل لأوباما وبيته الأبيض "لإنقاذ الشعب السوري" باسم "الحرية" و"القيم الأميركية"، إنما يشيان بأوهام الأكثريّة الساحقة للنخبة السورية واللبنانية، ونقاط ضعفها، أكثر مما يشي بشيء آخر.
الخطيئة الأصلية في حقّ الثورة السورية، والتي اقترفها تيار يميني ليبرالي لبناني-سوري مهيمن أيدولوجيًّا- حتى لو افترضنا أن الأمر تمّ "بنيّة ثورية حسنة"، وذلك حتى لو صحّ، لا علاقة له بالنتيجة النهائيّة، لم تكن في وجوب المواجهة الأيدولوجية "للممانعين"، وفضح نفاق من يقتل أطفال سورية، تحت عنوان "مقاومة إسرائيل".
كان ذلك الأمر بديهياً، وحتمًا لم يكن هنالك جائزة معنوية فائضة في ذلك. ما كان يجب محاربته باستماتة هو الوجه الآخر للعملة، والذي سوّق لنا الولايات المتحدة، والغرب عموماً، مخلصاً سياسياً، ومن ثمّ عسكرياً للسوريين.
الثائر الحكيم، كما أغلبيّة الشعب السوري، هو الذي فاقت ريبته من الولايات المتحدة حاجته للتصدي لكلّ من صدّق البروباغندا الناطقة بالعربية، أو بالإنجليزية، عن "مناهضة إيران الإمبريالية الأميركيّة"، مستمداً ذلك من فهمه العميق للممارسات الاستعمارية الغربية في الوطن العربي. فالصراع بين الغرب وإيران لم يكن، يومًا، بشأن منع الغرب إيران من امتلاك القدرة النووية، وباكستان والهند بقنابلهما النووية التي لم تقلق يوماً مصالح الولايات المتحدة بشكل جاد، خير دليل على ذلك. كان الهدف من الصراع الظاهري على "البرنامج النووي الإيراني" فعليّاً إرضاء مخاوف إسرائيل من تمدّد النفوذ الإيراني طوال هذه المدة، وكانت طهران تعرف ذلك.
إنّ موافقة مجموعة 5+1 على برنامج إيران النووي ليس سوى جائزة الترضية للمكسب الاستراتيجي الإيراني الذي وافق عليه الغرب أخيراً، وهو القبول علنًا بإيران قوة استعمارية حليفة في المنطقة.
إنّ إعلان إمبراطورية الشرّ، أي الحلف الأميركي-الإيراني لتقسيم الشرق العربي وتفتيته، بشكل صريح، إنّما هو "النووي الإيراني" الحقيقي! إنه السلاح الأنجع من كل القنابل الذريّة الذي كانت تسعى إليه، دومًا، سياسة الطبقة الإيرانية الحاكمة والشوفينية التوسّعية، إذ بإعلان ذلك، قبلت الولايات المتحدة أن تواجه تبعات الأمر عربيّاً، وخصوصاً خليجيّا.
فالولايات المتحدة تعرف تمامًا أنّ تحالفها مع إيران بحجة مواجهة إسرائيل أمام أعين العرب هو ما يضمن لها أفضل نتيجة، لتمرير مساعيها بتفتيت العراق. لكنّ هذه السريّة لم تعد بأيّة حال ضرورية، بعد الصفعة العراقية الخاطفة التي أتت على وجوه الجميع والتي فضحت - يا لحكمة الأقدار!- العلامات المتواترة عن "الاتفاق الدولي" على إبقاء الأسد بعد "العرس الديمقراطي" الأخير في سورية.
لم تتغيّر سياسة قادة إيران التوسّعية منذ أيام الشاه رضا بهلوي، والذي كان عن حقّ الشرطي الأميركي في المنطقة، لكن الطربوش الذي تمّ وضعه، هو ما تغيّر: قبل عام 1979 كان الطربوش الإيراني فارسيّاً بفجاجةٍ تثير الاستعداء القومي العربي له بسهولة، ولذلك، تمّ إبداله بعد 1979 بطربوش تصدير "الثورة الإسلامية".
كان الإيرانيون أكثر ذكاءً في فهم ما يتطلبه الأمر من إجرام للدخول إلى النادي الإستعماري مجدّدا، هذا كل ما في الأمر. وفيما يخص العرب، الهجمة الاستعمارية الأميركية-الإيرانية المزدوجة على وحدتهم القوميّة وسلامة مجتمعاتهم المتنوعة طائفياً وإثنياً، إما مباشرة، أو بوسطاء مثل "داعش"، لا تترك لهم مجالًا سوى الدفاع العربي القومي الديمقراطي، الثوري العنوان من العراق حتى تطوان...
وقد راجت أخيراً نكتة بين الظرفاء، مفادها بأنّ مرشد الجمهورية الإيرانية، علي خامنئي، أعلن الجهاد من أجل الحفاظ على المزارات الشيعية في الأرجنتين، بعد خسارة المنتخب الإيراني أمام الأخير في مباريات كأس العالم: لقد صدّر الأميركيون "البضاعة الديمقراطية"، لتبرير غزواتهم الاستعمارية، فقلدهم الإيرانيون بتصديرهم المزارات الشيعية في كلّ مكان. طوبى للمزارعين وأطباء الأسنان في سورية الذين كتب لهم أن يكشفوا ذلك كله للعالم!