هناك ثورة مضادة عارمة في المنطقة، لا تخطئها العين المجرّدة، الخطأ الذي يحدث في تقدير أهميتها، وتحديد مناطق عملها، وكما شهدنا، في نهايات عام 2010 انتفاضاتٍ شعبية اندلعت من الغرب العربي إلى أقصى الشرق، فإن ما نشهده، اليوم، أمر مماثل، لكن من دون العفوية التي اتّسمت بها حركة الشعوب، والتلقائية التي دفعت الشباب العربي إلى الميادين.
اليوم، ثمة خارطة موضوعة على الطاولة، وأدوات أكثر احترافية، مستخدمة في إدارة ثورة الأنظمة على واقع شعوبها. هناك مَن يخطط ويدير ويموِّل، وليس في هذا التصور مخالفة للمنطق والعقل، فمَن رأى شرارة التغيير كيف اشتعلت في تونس، ووصلت إلى اليمن والبحرين، لا بد له أن يعمل بقدر عالٍ من التنظيم لمواجهتها، وإخماد النيران التي أشعلتها.
في تقديري، هناك ثلاث قضايا، يمكن الاعتماد عليها في مواجهة التغيير الذي كانت تنتظره البلاد العربية، هي الأدوات المستخدمة في الثورة المضادة: أولاً، شيطنة وتفكيك جماعة الإخوان المسلمين، الحزب الرئيسي البديل للأنظمة القائمة، كما شهدنا في مصر وتونس وغيرهما من البلدان التي سقطت أنظمتها.
ثانياً، الإعلاء من شأن موضوع الإرهاب مجدداً في المنطقة العربية، أو إحياء النشاط الإرهابي في بلادنا مرة أخرى، وقد لاحظنا أفول نجم القاعدة وخطابها وبرنامجها، يوم كان التغيير السلمي المدني عنواناً في الساحة العربية.
المسألة الثالثة تكمن في اللعب على وتر المسألة الطائفية. وعلينا الانتباه إلى أن هذه المسائل والقضايا موجودة بالفعل، ولم تختلقها إدارة الثورة المضادة من العدم، كل ما فعلته هو استثمارها وتأجيجها خدمةً لأغراضها، أي أنها قرأت الواقع جيداً، واختارت مناطق العمل بشكل دقيق، ثم بدأت التحرك في الظروف المناسبة لإنجاح الهدف، وتحقيق ما هو منشود.
بدأت شيطنة الإخوان المسلمين في مصر، وتحولت الجماعة من كونها تياراً سياسياً "اعتيادياً"، تم التعامل معه بشكل طبيعي، في أول الأمر، إلى مجموعة إرهابيةٍ، لا يقبل أحد وجودها، أو ممارستها النشاط العام، وانسحب الأمر إلى بقية البلدان العربية شيئاً فشيئاً، وهناك ممانعة في بعض الدول، ستزول بالتدريج، ويجد هؤلاء أنفسهم مضطرين للقبول بالإخوان مجموعة إرهابية، لا يسمح بنشاطها.
وفي سورية، مَن يستعيد شريط الأحداث جيداً سيدرك أن توازن الرعب لم يكن له أن يتحقق هكذا، كان من غير المسموح انتصار المعارضة أو النظام، أو هزيمتهما بالكامل، وهذا ما يضرب العصافير كلها بحجر واحد، حرمان "الإخوان" أو الإسلاميين المعتدلين من كسب منطقة أخرى، تضاف إلى ما دخل رصيدهم من بلدان، في مصر وتونس والمغرب وليبيا واليمن إلى حد كبير، إحياء العمل الإرهابي ووضعه على جدول أعمال الثورة السورية، وإشراك القاعدة ومشروعها وأوهامها في المنطقة من جديد. وما حدث في العراق بشكل مفاجئ، ومن دون مقدمات، كان دليلاً على ذلك، تهميش فكرة الديمقراطية والتغيير عند الناس.
إن شيطنة "الإخوان" تعيق عملية التغيير، وتدعم فكرة العمل المسلح، وتمنح القاعدة وخطابها شرعيةً وجمهوراً لم يكن متوفراً في بدايات الربيع العربي، ولا يمكن أن نتصور تحولاً ديمقراطياً وازدهاراً لفكرة المواطنة والعدالة والمساواة في أتون الحرب الطائفية المستعرة.
يحقق البرنامج المعمول به لدى الثورة المضادة أهدافه بشكل واضح، وأعني هدف إحباط عملية التحول الديمقراطي، لكن السؤال الذي يجب أن نبحث له عن إجابة: إلى أين يأخذنا كل هذا؟