اربعة أشهر وبضعة أيام هي المدة التي قضاها اللواء عبده حسين الترب في منصب وزير الداخلية، خلال الفترة الانتقالية الثانية للرئيس عبدربه منصور هادي، حتى 17 يوليو الماضي الذي سرب فيه خبر تقديم الوزير استقالته التي لم يعلن عنها رسميا إلا بعد أسبوع من ذلك التاريخ، حينما كان الوزير في أراض المملكة العربية السعودية لأداء العمرة، وقد جاء خبر تلك الاستقالة صادما للكثير من أبناء الشعب اليمني الذين تفاءلوا بمقدم الرجل إلى هذا الموقع وبقدرته على تغيير الواقع السيء للحالة الأمنية في البلاد بعدما عاثت فيها الجماعات المسلحة وخلاياها الإجرامية فسادا في البلاد وأمعنت في تحطيم الآمال والتطلعات الشعبية للأمن والاستقرار والوحدة الوطنية.
لقد جاء اللواء الترب إلى هذا الموقع في ظرف مضطرب ومشلول أمنيا عمّ أغلب مدن البلاد، حيث تخطت فيه الجريمة السياسية والجنائية حدود المعقول، وتغلبت التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة الأخرى على كل خطط المواجهة الأمنية والعسكرية والمخابراتية، لتطال هجماتها مراكز سيادية حساسة داخل العاصمة وغيرها من المدن، وكذا مواقع تمركز الكثير من الوحدات العسكرية والأمنية، وأخذ كل مواطن يترقب سقوط البلاد برمتها في مستنقع الفوضى الذي يجعلها فريسة للتنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة المتباينة الفكر والثقافة والتوجه، مع وضوح ترهل الأجهزة الأمنية وتراجع أدائها ما أدى إلى سقوط بعض المدن والمحافظات في قبضة تلك التنظيمات وزوال سيطرة الدولة عليها.
لقد تتبعت تحركات وزير الداخلية منذ توليه منصبه هذا وحتى إعلان استقالته، سواء تحركاته داخل العاصمة أو في المحافظات التي تنتشر فيها أعمال الإرهاب والاضطرابات الأخرى، وكيف أنه كان أحد المسئولين القلائل منذ أحداث عام 2011م، الذين اقتحموا المخاطر ليصلوا إلى المواطنين في تلك المناطق، متلمّسا همومهم، وملتحما مع منتسبي الجهاز الأمني فيها، في سبيل رفع الروح المعنوية لديهم ومضاعفة أدائهم لواجباتهم، وإشعارهم بمدى الاهتمام الذي توليهم إياه قيادة الوزارة، الأمر الذي انعكس على أدائهم الأمني، فتراجعت الجريمة، وتقلصت الأعمال الإرهابية، وألقي القبض على الكثير من عناصر وخلايا التخريب والإرهاب والجريمة المنظمة المطلوبين أمنيا منذ سنوات، وتجلت القبضة الأمنية على أحسن حال مما كانت عليه، باستثناء بعض الخروقات التي هي، أساساً، من نتاج الوضع السياسي المتأزم، كحال الدول العربية التي اجتاحتها موجة ما يعرف بالربيع العربي.
كما أن مما لا يخفى على أي متابع أن اللواء الترب جاء إلى هذا الموقع الأمني بروح ثورية جارفة لكل راسبة عفنة ومزمنة، مصرّا على اجتثاث جذور الفساد المختلفة داخل الوزارة ووحداتها الفرعية في المحافظات، ثم وسّع من دائرة الثورية تلك لتطال معاقل ورموز فساد خطرة استعصت على أسلافه، إذ لم يكن أحد منهم ليجرؤ على الاقتراب منها، باعتبارها خطوطا حمراء، ثم مضى في تحديث المنظومة الأمنية في مختلف الجوانب، من خلال عملية التدوير الوظيفي في المناصب الإدارية التي كان غالبا ما يعين فيها أشخاص بعينهم، دون مراعاة لمعايير الكفاءة والجدارة والمنافسة، بل تعتمد على المحسوبيات المتعددة الأوجه، كالحزبية، والقروية، والفئوية، والنفعية، التي أفضت إلى إقصاء الكثير من الكفاءات والخبرات، وجعلت هذه المناصب حكرا على مناطق معينة من البلاد، ومن هنا فقد عمل على نبذ تلك الثقافة وتعطيل أدواتها رغم المعاثر والعقبات التي اعترت طريقه، ورغم المخاطر التي تعرض لها خلال الأربعة الأشهر التي قضاها حتى تقديم الاستقالة.
منذ اللحظات الأولى لتوليه حقيبة الداخلية، بدا اللواء الترب جادا في تنفيذ مشروعه التصحيحي داخل الجهاز الأمني حين كشف للبرلمان نقاط الضعف التي تعتري الأجهزة الأمنية والعجز الكبير في إمكانياتها التي نجمت عن تنازع ولائها من قبل أكثر من طرف سياسي بفعل الإرث السيء للعقود الماضية وانعكاسات الأحداث التي مرت بها البلاد منذ ثلاثة أعوام، كما صرح الوزير بالأخطار التي تهدد الكيان السياسي وبناء الدولة اليمنية، وحدد تلك الاخطار بأنها: الحوثيون، وتنظيم القاعدة، والحراك المسلح، حيث تكلم-حينها-بلغة الواثق مما يقول، ومن موقع الإحساس الأكيد بالخطر والمعطيات الكثيرة التي تعززها التقارير الأمنية وواقع الحال المؤزر لها، لكنه-كما يبدو- افتقد- وهو يشير إلى هذه الجهات- إلى مراوغة السياسي ولغته التي تقدم الإيحاء والإشارة على التصريح بالقول، فكان هدفا سهلا لأنصار تلك الجماعات وأشياعها، بل ورجالها من مختلف المواقع؛ لأن لكل من تلك الجماعات، التي وصفها بالخطرة، محركاتها القوية المندسة في كل مفاصل الدولة وفي الكيانات السياسية المدنية والعسكرية والمنظمات المدنية الأخرى، بل وفي البرلمان الذي قدم إليه تقريره وإجاباته حول الوضع الأمني في البلاد، فقد برز لهم كحجر عثرة في طريقهم نحو تحقيق أهدافهم الرامية إلى الفوضى، وصولا إلى إسقاط الدولة والنظام القائم والسيطرة على البلاد برمتها.
كما كانت تحركات الوزير ونشاطه الأمني الميداني مزعجا ومقلقا لكثير من الأطراف التي تستفيد–بطريقة أو بأخرى- من أعمالا لجماعات الإرهابية وجماعات التهريب والجماعات المسلحة الأخرى، فضلا عن موقف مؤسسة الرئاسة ذاتها وقيادة وزارة الدفاع من بعض تلك الجماعات، التي تتعامل معها بمكاييل متباينة، خاصة مع وقوع أحداث المواجهة المسلحة في محيط المكتب السياسي لجماعة أنصار الله الحوثية في العاصمة، في أواخر يونيو الماضي، على خلفية خرق أمني اقترفه المكتب السياسي، الأمر الذي دفع قيادة وزارة الداخلية إلى مواجهة ذلك بالقوة المسلحة وفق الدستور والقانون، وهو ما أثار مؤسسة الرئاسة التي تسير وفق توصيات مجلس الأمن القائمة على انتهاج الحل السلمي في الشمال واستدامة الهُدن (في إشارة إلى المواجهات مع الحوثيين) على خلاف ما يُنتهج مع أي جماعة مسلحة أخرى، كتنظيم القاعدة والحراك المسلح، دون مراعاة للتداعيات المستقبلية على النظام السياسي والاجتماعي للبلاد.
في اتجاه يمس حياة وزير الداخلية ومستقبله السياسي، مع تع إلى صيته وترداد مناقبه وأعماله الشجاعة على ألسن الجماهير، كانت كل نجاحاته مثيرة لحفيظة بعض رجال الدولة المدنيين والعسكريين، مخافة أن يصير الرجل في المستقبل منافسا سياسيا على أعلى موقع سياسي داخل البلاد، خاصة بعدما تجاوز تأثيره جغرافيا البلاد، حيث استطاع انتزاع وضعٍ مناسب لفئة من المغتربين اليمنيين في المملكة العربية السعودية، بعدما كانوا في عداد المحظورين من العودة إليها، وهو أمر دفع البعض لاجترار ذكريات حقبة السبعينات وفترة رئاسة الرئيس إبراهيم الحمدي الذي جاء بذات الروح التصحيحية إلى منصب رئيس الجمهورية عبر وزارة الداخلية، من خلال مشروع تصحيحي كانت البلاد فيه في أمسّ الحاجة إلى رجل مثله، كحال البلاد هذه الأيام، وقد تناولت منابر إعلامية، استنادا إلى مصادر موثوق بها، حادثة المكتب السياسي لأنصار الله (الحوثيين) بأنه عمل موجه ضد الوزير ذاته، وذلك من قبل قيادات عليا في الجيش لم يرقها نجاح الوزير الذي كشف سوأتها في مواجهة الإرهاب والجريمة السياسية رغم الإمكانيات الجبارة التي تتمتع بها تلك القيادات والوحدات الخاضعة لها، وسعيها الحثيث في التأثير على الرئيس هادي بعدم رفض الاستقالة، ومن هنا فإن تداعيات واقعة المكتب السياسي إياه، كانت تساق على ذات السيناريو الذي حسمت فيه اللحظات الأخيرة لقائد اللواء(310) العميد حميد القشيبي، ليكون اللواء الترب القامة العسكرية والأمنية-كما خُطط له- التي تلحق بالعميد القشيبي، وعلى ذات الطريقة الدرامية المفضوحة، غير أن ذلك لم يحصل وكان أن جاءت الحسابات البديلة بمكاسب مقبولة ودون أي ضجيج، بحيث وظفت في رفع يد الوزير عن الإدارة الأمنية لأمانة العاصمة ومحافظة صنعاء، ودفعه لترك الوزارة بقناعة ذاتية، وهو ما يعني التخلص من الرجل ووقوع الجهاز الأمني في قبضة رجال الرئيس!
إن ما يؤكد تفسير مرامي الحسابات البديلة المشار إليها، صدور قرار وزير الداخلية رقم(286) لسنة 2014م، في الثاني عشر من يوليو-وهو اليوم الذي اجتمع فيه وزير الداخلية برئيس الجمهورية- بتكليف نائبه اللواء علي لخشع بالإشراف الكامل والمباشر على شرطة أمانة العاصمة والوحدات الأمنية الأخرى الموجودة فيها، كقوات الأمن الخاصة، وشرطة الدوريات، وأمن الطرق، وحراسة المنشآت، والبحث الجنائي، إضافة إلى شرطة محافظة صنعاء، وقد كانت ديباجة القرار تشير إلى استناده إلى توجيهات رئيس الجمهورية في الاجتماع إياه، تحت ذريعة مقبولة هي رفع درجة الاستعداد الأمني في أمانة العاصمة ومحافظة صنعاء، بسبب تصاعد نشاط الحوثيين في محيط العاصمة وداخلها، ومع سقوط مدينة عمران في قبضتهم، غير أن الأمر لا يخلو-كذلك- من السعي لمضاعفة القبضة الأمنية والعسكرية على العاصمة والمحافظة وتركيزها بيد رجال الرئيس هادي، كما سبق الإشارة، خاصة أن قيادة الشرطة العسكرية ووحداتها الفرعية في كافة المحافظات قد آلت بموجب قرارات رئاسية سابقة إلى ذات القبضة، بحيث عملت-حينها- على توازن قوة الرئيس الأمنية في العاصمة وفي المدن، مقابل قوة وحدات قوات الأمن الخاصة التابعة للداخلية المنتشرة في عموم عواصم الحافظات والتي يحاذر منها الرئيس ورجاله أن تكون غير مأمونة الجانب في أي مواجهة محتملة مع معارضيه.
يثير بعض مناوئي الوزير أن توقيت الاستقالة جاءت هروبا من المواجهات المتوقعة التي قد يخلقها قرار رفع أسعار المشتقات النفطية أو أي مواجهة مسلحة مع جماعات العنف المسلحة أو بعض الأطراف السياسية والعسكرية التي تحاول بطريقة أو بأخرى استغلال ظرف كهذا لإباحة العاصمة للفوضى وفق ما تخطط له، والحقيقة أن سيرة الرجل تدحض هذه الإشاعات، فقد خرج إلى شوارع العاصمة في مواجهة العناصر التي انحرفت عن طريق التعبير الديمقراطي والسلمي للحقوق في المظاهرات التي اندلعت في الحادي عشر من يونيو الماضي مطالبة بإسقاط الحكومة نتيجة انعدام المشتقات النفطية والتلاعب بأسعارها، لكن مواجهته تلك لم تكن قمعية ومصادرة للحريات، بل مصوِّبة ومرشّدة لها، كما أن زياراته وتعقيباته الليلية المفاجئة والمتكررة دون حراسة إلى الوحدات والمراكز الأمنية داخل العاصمة وخارجها، وإلى مراكز أمنية أخرى في محافظات الجنوب والشرق والوسط، في ظروف أمنية حساسة تترصد فيها جماعات العنف بأي مسئول أمني وعسكري.
إن مما لا شك فيه أن هنالك الكثير من الحيثيات غير المعلنة التي تقف وراء تقديم الوزير لاستقالته إضافة ما أسلفنا الحديث عنه، ولعل بعض العبارات الواردة في فقرات الاستقالة تحمل ما يؤكد هذا القول، وهي من الخطورة بمكان بحيث تحاشى الوزير ذكرها حرصا منه على الأمن القومي اليمني، وقد تجلى ذلك في قوله:” أتقدم لفخامتكم بإعفائي من المنصب وقبول استقالتي، نظرا لما سبق ذكره، وما لا يمكن ذكره من الحقائق التي يجف القلم عن كتابتها، ويعجز اللسان عن ذكرها، حفاظاً على أمن الوطن وسلامته ووحدته” ولعل مدلول العبارة أبلج في أن حقائق مهمة ما تزال في طي كتمان الرجل، لم يفصح عنها بعد، وإن كانت تساق بطريقة زائفة إلى رئيس الجمهورية من قنوات أخرى بحيث لا يحملها على محمل الجد، ولذلك نجده في فقرة أخرى من الاستقالة يقول:” والتاريخ وحده سيخلد في ذاكرة الوطن والأجيال القادة العظماء (والمخلصين) الأوفياء الذين أقدموا على اتخاذ القرارات الشجاعة والصائبة في أحلك المواقف وأصعب الأوقات، بينما سيسطر الخزي والعار والهوان عن كل خائن ومتآمر وخانع وعاجز ممن ارتعشت أيديهم ونفوسهم عن القيام بواجباتهم، أو كانوا معاول هدم وتمزيق لبنيان الوطن ومصالحه العليا”.
إن قرار التفويض الذي أصدره الوزير وفق توجيهات رئيس الجمهورية لا يسقط عنه المسئولية باعتباره أعلى رأس في وزارة الداخلية، فالسلطة هي وحدها التي تفوض، أما المسئولية فلا يمكن تفويضها وفق قواعد الإدارة، ولذلك لا يمكن له أن يحتج بقوله: لقد فوضت. وذلك في حالة حدوث أمر جلل يخل بالوضع الأمني للبلاد، خاصة في مثل الظروف التي تمر بها، التي تثير أطماع الكثير من قوى الداخل والخارج، وهو بهذا الوضع التفويضي وجد نفسه بينخيار أن يمضي كوزير بلا سلطة مع وقوع المسئولية عليه حتى وإن أخطأ غيره، أو أن يغادر المشهد كما يصنع من يحترمون وظائفهم وواجباتهم حتى يعودوا إليها وهي كاملة غير منقوصة، فيؤدي دوره على النحو الذي يجب، دون تساهل أو مداهنة مخلة بأمن البلاد واستقراراه وحدته، ولذلك فقد عبر في استقالته حول هذا الأمر-كما يبدو- بقوله: “إن صبر الدولة وصمتها وتسامحها وتعاملها بالحكمة في مواقف عديدة، لا ينظر إليه الكثير على أنه تسامح وحكمة، بقدر ما يضعونه في خانة الضعف والخضوع والعجز، وهناك من يظنه تغاضياً وإقراراً (وتواطؤا) وموافقة لما يسعون إلى تحقيقه من أهداف ومخططات مشبوهة، ولذلك كان الصبر والتغاضي والتساهل عن مواجهة كثير من المواقف سبباً في تعاظمها وتأثيرها السلبي على أمن وسلامة الوطن ووحدة نسيجه الاجتماعي”.
ما أود أن أختم به هذه المقالة، هو التوضيح بأنني لست-هنا-بصدد الدفاع عن الرجل أو استجداء الرئيس في رفض استقالته نزولا عند إلحاح الجماهير، وتقديرا لمن يعمل مخلصا لهذا الوطن، فسيرة الرجل معلومة لدى الكثير من اليمنيين في الداخل والخارج، إلا أنني أجدني ملزما بالإشادة بالمواقف الوطنية والتضحيات التي أضحت وأضحى رجالها عملة نادرة، وهو ما لمسناه خلال فترة تولي الوزير لمنصبه كوزير للداخلية وقبلها كقائد لوحدة المنشئات، بل ويجب الإشادة بها على مبدأ إسلامي منصف، هو: “من لا يشكر الناس لا يشكر الله” لكن ذلك لا يمنع أن نقوّم-مستقبلا- أي انحرافات مشاهدة في الأداء الأمني أو في سواه، حال عودة الوزير لمنصبه أو توليه أي منصب آخر في أي موقع حكومي.