«عرش بلقيس» موقع أثري يمني قديم ظل فترة طويلة مدفوناً، إلى أن قدر أن تزاح عنه الرمال، وتظهر للعيان بقاياه تتحدى الفناء والرمال والسنوات. هذا هو العرش التاريخي، الذي كانت بلقيس تحكم منه مساحات شاسعة، في حكمة وقوة متلازمتين. لكن ماذا عن العرش اليوم؟ ماذا عن «عرش بلقيس»/»كعكة صنعاء» /»بنت الصحن» اليوم؟
أحزاب سياسية، هيئات وشخصيات، واجهات دينية وأخرى وطنية وثالثة قومية، دعاة للتقسيم وآخرون للتوحيد، وشعارات من كل نوع، والهدف في المجمل واحد هو الوصول إلى «عرش بلقيس» إلى السلطة.
غريزة السلطة والتملك عميقة في طبع الإنسان، لكنها في اليمن تظهر في شكل طاقة تدميرية للذات، للآخر للقيم، للمصالح، للوطن والمواطنين.
أخلو إلى نفسي أحياناً في ساعات التأمل وأقول: على ماذا؟ ما الذي بقي من السلطة في اليمن يغري؟ الكعكة اليمنية عجفاء، أو هكذا يخيل إليّ، لكن الجالسين حولها والمتطلعين إليها لديهم نهم كوني رهيب لا تكفيه كعكة عجفاء.
عندما تمت الوحدة اليمنية في 1990 كانت حلماً تاريخياً تحقق، لكن الحقيقة أنه رغم الإرادة الشعبية في تحقيقها، فإن الخوف على السلطة والطمع فيها هو الذي عجل بتحققها، إذ حاول النظام في عدن آنذاك الهروب من ارتدادات الزلزال السوفييتي، وأقدم على دمج نصف الكعكة بالنصف الآخر للاستحواذ عليها كاملة، بينما كان النظام في صنعاء قد تهيأ لالتهام النصف الهارب من زلزال موسكو.
في الظاهر تمت الوحدة استجابة للمطالب الشعبية، وعلى الصعيد السياسي، كان الطمع في السلطة باعثاً كبيراً، وسبباً قوياً لها. بعد الوحدة، تحركت غريزة السلطة، قتلاً وتصفيات واغتيالات في كوادر النصف الهارب من الزلزال السوفييتي، ولا يزال ملف هذه الاغتيالات غامضاً، إلا أن ما ليس بغامض، هو أنها كانت مظهراً خفياً من مظاهر الصراع على السلطة. وفي عام 1993 أي بعد الوحدة بثلاث سنوات تقريباً تمت انتخابات برلمانية، ولم تأت النتائج على هوى غريزة السلطة، فتحركت هذه الغريزة من جديد، وحدث الصدام بين غريزتين، والتحم سكينان على سطح الكعكة، وأصر السكين المثلوم حينها على الرجوع بنصف الكعكة مرة أخرى إلى عدن، وأعلن أنه سيكافح من أجل استقلال الجنوب، ومع مرور السنوات نصب نفسه ناطقاً باسم الجنوبيين، ومدافعاً عن حقوقهم، وكل ذلك من أجل العودة مجدداً إلى السلطة التي فقدها ضمن حساباته التي قادته إلى الوحدة عام 1990.
وكما سعى الطامعون في السطة إلى الوحدة لتوسيع سلطاتهم، بعد أن غطوها بغلاف وطني جميل، جاء الإعلان عن الانفصال على لسان طامعين آخرين في السلطة بعد أن غطوا طمعهم فيها باسم مطالب حقوقية وسياسية لأبناء الجنوب، وهكذا كانت السلطة هي محرك كثير من الوحدويين وكثير من الانفصاليين في الآن ذاته. وجاءت الحرب عام 1994 مباشرة بعد نتائج انتخابات عام 1993 لتعكس طبيعة الأسباب الحقيقية لهذه الحرب، وهي أنها لم تكن أكثر من صراع سياسي على «عرش بلقيس».
وشيء مشابه وقع في انتخابات عام 1993 حيث حصل حزب «الحق»، وهو حزب زيدي التوجه على مقعدين فقط، ثم شارك في انتخابات 1997 ولم يحصل على أي مقعد، ثم شارك في انتخابات 2003 ولم يحصل على أي مقعد، وبعد الانتخابات في 2003 اندلعت الحرب بين الحوثيين، الذين خرج كثير من قياداتهم من حزب «الحق» قبل 2003 وبعده وانشقوا عنه، وأسسوا تنظيم «الشباب المؤمن»، الذي سيطر عليه حسين الحوثي في ما بعد، واندلعت المواجهات العسكرية بين الجيش والحوثيين بعد ذلك عام 2004.
وعند ربط الأحداث ببعضها، فإن اليأس من الحصول على شيء من كعكة السلطة عن طريق الانتخابات في 2003 وما قبلها، دفع فريقاً من المنضوين تحت حزب «الحق» إلى الخروج من الحزب والخروج على الدولة، وإشهار السلاح في وجهها في العام التالي 2004، حين بدأت سلسلة الحروب بين الدولة والحوثيين، التي كان آخرها معارك عمران قبل أسابيع، والله وحده يعلم متى ستنتهي هذه السلسلة من الحروب والصراعات التي تتخذ اليوم شعارات طائفية ودينية وتاريخية ووطنية، وهي في حقيقتها صراع سياسي على السلطة، على كعكة صنعاء أو عرش بلقيس، وإن تدثرت بعباءة الدين والمظلومية التاريخية، وأهل البيت، أو تدثرت بلباس جمهوري أو وطني أو ما إلى ذلك.
بالبنط العريض، والمختصر المفيد ما جرى ويجري هو صراع على سلطة الأرض، وإن تخفى المتصارعون تحت عباءة السماء، صراع البشر الذين يتحدثون بألسنة الملائكة، ويتصرفون تصرفات الشياطين.
وفي اليمن تتطور الحكاية، ونتقدم مع الزمن لينشأ جيل جديد من أبناء المتصارعين على الكعكة، التي ربما كانت خلال فترة تكفي لاثنين أو ثلاثة كبار، غير أنها لم تعد تكفي أبناء الاثنين الكبار، وتطلع الأبناء إلى الاستحواذ بشكل شره على كعكة صنعاء العجفاء، وكثر المتحلقون حول «بنت الصحن»، كل يريد النصيب الأوفر، وحدث الخلاف بين الفريق المسيطر على الكعكة في صنعاء، ودب الفراق، وخرج إلى العلن، وحدث الطلاق، واستعد كل بسكين لا لاقتسام الكعكة، ولكن لغرسها في صدر الجالس إلى جواره على الطاولة.
وعندما حدث الانقسام في الطبقة الحاكمة، نزل الانقسام إلى الشارع الذي كان محتقناً بفعل الفساد وانعدام الأمن والحروب وتردي الوضع الاقتصادي، فخرج مجموعة من الشباب للاحتجاج أمام جامعة صنعاء في شباط/فبراير عام 2011، ضمن سلسلة أحداث الربيع العربي، لتتمخض الشوارع في أغلب المدن اليمنية عن مولود جديد هو ما أطلق عليه اسم «ثورة الشباب»، التي كانت في وجه من الوجوه صراعاً سياسياً على السلطة، رغم اندفاعة الشباب الحماسية التي اجترحت المستحيل وأحدثت التغيير، إذ أن دخول الأحزاب السياسية على الخط، وإن أعطى «ثورة الشباب» غطاء سياسياً، إلا أنه «سيس الثورة»، التي وجدت نفسها أخيراً بين يدي رعاة المبادرة الخليجية، وهذا لم يرض الكثير من الثوار إلا أنه كان الحل الممكن في ظل تعقد المعطيات السياسية في البلاد.
وقبل ذلك وبعده سيتخذ الصراع على السلطة ألبسة مختلفة، وسيتغطى بشعارات براقة، وخلاصة الكلام أن معظم الثورات والحروب والنزاعات يكون محركها الجوهري، الصراع السياسي على السلطة، لا الدفاع عن الوحدة ولا عن الجنوب ولا عن الجمهورية ولا عن الشريعة ولا عن أهل البيت، ولا شيء من هذه الكلمات البراقة التي تخدع البسطاء فينجرون وراءها ليكونوا وقوداً لصراعات ثعابين صنعاء، التي يبدو أنها خرجت في حمى الربيع من جحورها تلدغ كل من تقابله في طريقها، حتى يصل الأمر إلى مستقره.
السلطة – إذن – هي المحرك وهي الدافع للصراع. أليس من الغريب أن مناطق الصراع المسلح اليوم على الخريطة اليمنية، هي في معظمها المناطق التي نمطت تاريخياً على أنها مناطق سلطة، بمعنى أنها مناطق تصنع الملوك أو الرؤساء، سواء في الجنوب أو في الشمال؟ ولا يحتاج أحد إلى عناء كبير لإدراك أن الصراعات الموجودة اليوم في هذه المناطق، هو صراع طلاب سلطة قدماء، مع طلاب سلطة محدثين، يوزعون الشعارات والصراعات والويلات والحروب، ويخوضون صراعاتهم بكل واجهة ممكنة، وكل راية جميلة ليصلوا إلى أهدافهم في الوصول إلى الكعكة.
ويمكن كذلك فهم أحداث عمران الأخيرة وفقاً لهذا البعد على أنها محاولة نطاق جغرافي معين لإعادة إنتاج سلطته التي يرى أنها فقدت بعد فبراير 2011، مهما تدثرت بالشعارات، ومهما ركب الحوثيون على موجتها.
وليس هذا بغريب، وليس توظيف الشعارات في مجتمع مدجج في معظمه بتقاليده الثقافية والدينية بغريب، ليس كل ذلك غريباً، مادام الهدف هو الكرسي الذي قال عنه الرئيس السابق علي عبدالله صالح ذات يوم إنه «كرسي جهنم»، من دون أن يشرح لنا كيف حلا له أن يجلس عليه أكثر من ثلاثين عاماً، من دون أن يشعر بحر النار.