تقوم الفنون في حياة الشعوب بأدوار بالغة الأهمية في التنوير والتطوير ونشر المعرفة لاسيما تلك الفنون التي تجمع بين الكلمة النقية الصافية والموسيقى والأداء، وهي تشكل مع بعضها سيمفونية الأمل والفرح والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته وانعتاقه من قبضة الطغيان والعبودية. ومنذ أيام استمعت في حشد من المبدعين إلى "أوبريت كونوا لليمن" أنجزته جمعية الشعراء الشعبيين اليمنيين بإشراف رئيس الجمعية الشاعر المبدع أمين المشرقي. وكان أول ما لفت انتباهي في هذا العمل البديع أن بلادنا غنية بالمواهب والكفاءات الإبداعية والفنية ولا ينقصها لكي تظهر وتثبت وجودها في الساحة العربية والعالمية سوى قدر من التشجيع والرعاية، وفتح الأبواب المغلقة في وجه هذا النوع من الفنون لممارسة نشاطها في واقعنا الذي يشكو من الجفاف الفني ومن بَلاَدَهَ الإحساس، ولا غرابة أنه في الأجواء التي تفتقد الفنون الراقية يسود الاكتئاب وتنمو مشاعر الكراهية وتزداد الخلافات والضغائن.
و"أبريت كونوا لليمن" يجمع بين الشعر الفصيح وشعر العامية، بين الكلمات بأصوات الشعراء، والكلمات مغنّاة وملحنة بصوت المجموعة. وما يهم في هذا "الأوبريت" بالإضافة إلى فنيتها هو موضوعها الهادف إلى تقديس الوطن والاهتمام بالوحدة الوطنية، وما تدعو إليه القصائد من تكانف وتضامن بين أبناء هذا الوطن، والارتقاء بهم إلى مواجهة الصعاب وإعطاء كل طاقاتهم لبناء يمن سعيد خالٍ من النزاعات والانقسامات والحروب . وإذا كانت قصائد "الاوبريت" في غالبها مكتوبة باللهجة العامية، فإنها واضحة المعنى قريبة من القلوب وقد صيغت بشعر راق في أخيلته وصوره، كما امتازت تلك القصائد بالمضمون الوطني الإنساني وبالأداء الجميل. ولا أشك في أنها ستكون على خشبة المسرح أكثر وضوحاً وتعبيراً عن المعنى الكبير الذي تهدف إليه، وقد قيل قديماً –وهو قول صحيح- ما راءٍ كمن سمع، أي أن أثر مشاهدة "الأوبريت" ستكون أكثر بما لا يقاس من سماعها.
والمشكلة التي تعاني منها "جمعية الشعراء الشعبيين" بعد إعدادها لهذا العمل الممتاز أنها لم تجد الاستجابة الرسمية لتنفيذه، ولا الإمكانات التي تساعدها على إخراجه إلى حيز الوجود، ثم الطواف به في المحافظات اليمنية بوصفه نداءً من القلب إلى كل مواطن في شمال الوطن وجنوبه، في شرقه وغربه. والجمعية كعادتها تعوّل أولاً على وزارة الثقافة ثم على وزارة الإعلام، ثم على أمانة العاصمة، فالمشروع لا يهم جهة معينة فقط، وإنما يهم كل الجهات المسؤولة، كما يهم الوطن الذي بدأ يتفسّخ ويكاد ينعقد كيانه التاريخي، وبدأت تغيب عن أبنائه فكرة التعايش وروح المواطنة. وهذا العمل وأمثاله يمكن أن يعيد إلى المواطن اليمني إحساسه بما للوطن عليه من حق، وما عليه لأشقائه في هذا الوطن من مشاعر الأخوة والود والتضامن والانطلاق معاً في مسيرة التجدد والتطوير والبناء وتجاوز مخلفات عصور التمزق والشتات.
إن المسرح فن مناهض للتخلف والتسلّطية والاستعلائية والحروب والمنازعات، و"الأوبريتات" وما يماثلها من أعمال درامية أو غنائية هي جزء لا يتجزأ من المسرح وفنونه. وما أحوج بلادنا في هذا الظرف خاصة إلى المسرح وإلى الأعمال الدرامية التي تخاطب وجدان الجمهور وعقله وتضعه أمام مسؤولياته الوطنية والأخلاقية، وتخاطب فيه روح الإنسان في زمن بشع يقتل فيه الإنسان أخاه الإنسان بإحساس ميت ودم بارد.
وإذا كانت الوسائل الأخرى في ألحياة وفي المجتمع قد عجزت عن بناء الإنسان وإعادة الأمل إلى نفسه فإن المسرح وما يتصل به من فنون قولية أو سمعية هو واحد من المنافذ المفتوحة على طريق التغيير. وقد كان في الشعوب المتقدمة حالياً مدرسة يومية لملايين الأميين الذين كانوا يتعلمون فيه مبادئ المعرفة وطرائق السلوك المهذب، ويقرأون فصولاً من تاريخ أوطانهم بعد أن تحول التاريخ إلى ملاحم ومسرحيات وأوبريتات تربط المواطن بوطنه ومواطنيه وتحمي الوحدة الوطنية من التفتيت والانكسار.
الروائي الكبير علي المقري في "بخور عدن":
لا أبالغ إذا ما قلت أنها واحدة من أهم الروايات الصادرة في هذا البلد وأن المبدع الكبير يستطيع أن يتجاوز مصاعب الظروف العامة ويكتب مثل هذا العمل الجميل الذي يلقي الأضواء على مدينة عدن في زمن كانت فيه واحة مفتوحة للتعايش والتسامح والمشاعر النبيلة. ستلقى الرواية أصداء واسعة عربية وأجنبية وهي صادرة عن دار الساقي في بيروت وتقع في 333 صفحة من القطع المتوسط.
تأملات شعرية:
نَمْ يا هذا
وأبلعْ صوتك
والتزم الصمت
فلن يُرضي صوتُك أحداً
أو يلقى أذناً صاغيةً
في زمن الاستقطابْ.
إما أن تبقى في " الجوقة"
وتردد ما كتبوا أو قالوا
أو تخرج ملعوناً مطروداً
من كل الأبواب.