لم يكن المشهد الملتهب في اليمن غامضاً كما هو اليوم رغم وضوح التحركات التي يقوم بها المبعوث الأممي جمال بنعمر والمساعي والجهود التي تبذلها أطراف داخلية وخارجية بهدف إعادة فتح الأوضاع المأزومة على حظوظ متساوية يحتل فيها الانفراج الأولوية الرئيسية مع ذلك فلم تتضح حتى هذه اللحظة طبيعة الحلول السحرية وخارطة الطريق الوعرة التي من شأنها أن تؤدي إلى ذلك الانفراج والتوصل إلى حلول تقبل بها الدولة وجماعة انصار الله, حيث ظلت المشاورات الجارية بين القصر الرئاسي بصنعاء و قيادات انصار الله في صعدة يلفها الغموض والتكتم على الرغم من الأنباء المتداولة عن بوادر الانفراج التي جرى تسويقها على مدى الساعات الماضية عبر وسائل الإعلام والتي لا تخلو مؤشراتها من القنابل الموقوتة والمناورات السياسية المتمادية والتدافع الخشن الذي تظهر معه الأزمة تراوح بين احتمالين الأول: ذهاب الجميع إلى صفة شاملة عبر "سلة" من الحلول الوطنية من اجل إخراج الوضع الراهن من عنق الزجاجة و الثاني: فشل منطق العقلانية في تقريب المسافات المتباعدة فتنزلق البلاد و"الداخل المحموم" نحو الانفجار بدلاً من الانفراج .
اعتقد أن كثيرين مثلي يشعرون بقلق بالغ تجاه الوضع المأزوم الذي تعيشه العاصمة صنعاء إنْ لم يكن اليمن بأكملها وأنهم الذين يطرحون التساؤلات الحائرة حول ما عسى أن يكون عليه مستقبل هذه العاصمة التي أصبحت مسرحاً كبيراً لأكثر الأزمات سخونة بعد أن كانت حتى الأمس القريب بمثابة " المركز المقدس " الذي يدار الصراع على اليمن من داخله .
وهو ما يصح معه القول إن انتقال الصراع إلى صنعاء يوشي بما هو اكبر واخطر من إلغاء أو استمرار قرار رفع الدعم على المشتقات النفطية وإسقاط الحكومة وتغييرها؛ إذ أن انتقال هذا الصراع إلى داخل أسوار العاصمة قد استرهن مصالح الغالبية العظمى من اليمنيين ومجريات حياتهم في نطاق ذلك الصراع وكأن أبناء هذا الشعب صاروا يمثلون الأصابع التي يعض عليها الفرقاء المتناحرون في حلبة الإخضاع المتبادل بل أن تحول الصراع من صراع على اليمن إلى صراع على العاصمة قد اغرى جميع الأطراف على النزول إلى الملعب والمشاركة في اللعبة على طريقة معمر القذافي الذي طلب ذات مرة من اتحاد كرة القدم الليبي إلغاء فكرة أن يلعب فريقان في الملعب حتى يتاح للجمهور المشاركة في اللعب وممارسة كرة القدم بشكل جماعي..
هذا الواقع غير المسبوق بقتامته هو من تلاشت فيه فكرة الفريقين من مع الإصلاحات السعرية ومن يقف ضدها بعد أن نزل الفرقاء المتباينون في التوجه أو المتحاربون تكتيكياً إلى الملعب ليس رغبة في احتواء وتطويق غليان الصراع وإعادة المتشنجين إلى قواعد اللعبة وإنما بهدف إرباك المشهد وتوسيع شقة الانقسام والخلاف لنجد أن هناك من بات يصلي صلاة الجمعة في شارع الستين وآخر في شارع المطار.
ينبغي الاعتراف انه لم يسبق لليمن أن مر بمثل ما يمر به في الأزمة الحالية من حالة غليان يريد البعض لها أن تتحول إلى صدامات دموية وربما إلى حرب أهلية تشفي غليل المتربصين بهذا البلد وهو ما يزيد من مخاوف كل الحريصين على سلامة هذا الوطن الذين يرون مواقف السياسيين يغلب عليها سوء التقدير لحجم الاحتقان الذي طال أمده في الشارع واستهتار واضح في تعامل البعض مع تجليات هذا الاحتقان وإخفاق شديد في استقراء اطراف الأزمة لآفاقه المستقبلية والتي تتجلى اهم ملامحها اليوم في حالة الانقسام المجتمعي التي تتسع دائرتها على نحو مخيف مما ينذر بخروج هذه الأزمة عن السيطرة خصوصاً وان الدخان المتصاعد عن غليانها يوشك أن يدفع بها إلى التفجير.
البعض يتساءل- وهو معذور في ذلك-: ما الذي حصل لتنفتح أبواب الجحيم على مصراعيها أمام الشياطين لفرض أجندتهم الفتنوية وإثارة الخلافات من جديد وتعكير أجواء التوافق الوطني التي انتهى إليها مؤتمر الحوار الوطني بين كافة المكونات والكتل والحركات الناشطة على الساحة اليمنية ؟, فهل كان الخلل في مخرجات الحوار؟, أم في التوافق المؤجل؟, أم أن الأمر يتصل بصورة مباشرة في مصاعب التطبيق لتلك المخرجات والتي جاءت الأزمة بين الحوثيين والسلطة على خلفية رفع أسعار المشتقات النفطية كردة فعل على مشاهد التراخي في تنفيذ تلك المخرجات؟ وأين تبدو مفاتيح الحل لكل ما يجري اليوم ؟ وما هو الموقف المطلوب لتنفيس الأزمة والخروج من المأزق الراهن في ظل الأحاديث السائدة والحجج التقليدية بين مؤيدي هذا الطرف أو ذاك والتي تغرق في التفاصيل أكثر من بحثها عن الحل؟.
قد لا نختلف مع الذين يُخطِّئون الحكومة التي أقدمت على رفع الدعم عن المشتقات النفطية وتحرير اهم سلعة اقتصادية دون ملازمة هذا الإجراء بحزمة من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والقانونية والمالية الواجبة حضورها حتى تكتمل عملية تجفيف منابع الفساد ولاشك بان الحكومة قد أخطأت حينما لجأت إلى مبررات واهية وغير منطقية كالقول بان المشتقات النفطية المدعومة حكومياً يستفيد منها المهربون الذين يعملون على تهريبها إلى دول القرن الأفريقي ولذلك فتحرير أسعار هذه المواد هو الكفيل بحرمان من يشترون المشتقات بالسعر المدعوم ويبيعونها بالسعر العالمي؛ إذ أن مثل هذا التبرير يستخف بعقول الناس إنْ لم يستفز مشاعرهم لكونه الذي يجد في معاقبة خمسة وعشرين مليون مواطن هو أسهل على الحكومة من زجر خمسة مهربين للمشتقات النفطية.
ونتيجة هذا الخطأ الفادح, فقد اعتبر الحوثيون قرار الحكومة تصرفاً منفرداً من جانبها وانه الذي يمس حياة الغالبية من أبناء الشعب اليمني الذين يعانون من ظروف ومعيشية بالغة الصعوبة ولذلك بادروا إلى قيادة موجة شعبية ضد القرار والمطالبة بإسقاط الحكومة وما نختلف فيه مع المعارضين للإصلاحات السعرية هو التصعيد غير المدروس وهو الذي قد يستغل على أرضية الشد المتواصل في الدفع بالبلاد إلى حافة الفوضى والانهيار وهو ما يستدعي من كل العقلاء بذل اقصى الجهود لتقريب وجهات النظر واحتواء التداعيات التي قد تترتب عن هذه الأزمة الخانقة على حاضر ومستقبل اليمن, فطالما أن هناك استعداداً من كلا الطرفين على التباحث والتشاور, فإن ذلك يمثل فرصة ذهبية لتطويق الأزمة والتوصل إلى اتفاق وسط حول النقاط الخلافية بما يحفظ استقرار البلاد وأمنها وتوحيد صفوفها.
ومن الواقعية أن يدرك الجميع أن لا أحد يستطيع أن يحكم البلاد لوحده أو وفق شروطه ورؤيته, فاليمن اليوم تحتاج إلى التوافق والتعايش والاحتكام إلى المصلحة الوطنية ومصلحة الشعب اليمني ومن يتجاهل هذه الحقائق في ذروة الصراع على كرسي السلطة فهو مخطئ أو واهم, فأي سلطة ستبقى اذا ما ضاع هذا الوطن.
فمتى يعيرنا وكلاؤنا السياسيون انتباها ويتألمون لألمنا وخوفنا على مستقبل هذا الوطن الذي تعبث به الأزمات العدمية وكأنه لا يكفيه ما لحق به من تدمير وخراب خلال الثلاث السنوات الماضية وما حل به من كوارث صراعات الأحزاب والجماعات التي آن لها أن تعيد النظر في مواقفها وان ترمي مخلفات الحقب السابقة وراء ظهرها بعد ما صارت ماضياً غابراً بما لها وما عليها وان تتجه إلى الاستفادة من دروس الأزمة الأخيرة بما يحقق الانفراج ويخرج اليمن من دائرة التشرذم والأزمات المتواصلة والتي لا تكاد أن تخبو أزمة حتى تشتعل غيرها بكل ما يستفز ويستنفر الغرائز المرضية والعصابية ويبعث على الانقسام والتباعد وتفكيك عرى النسيج الاجتماعي وذلك شرف تهون دونه كل المنافع والمطامع الشخصية والفئوية والحزبية.