تلقّت فكرة الانفصال نكسةً حادة بمناسبة الاستفتاء عليه، أو على بقاء اسكتلندا داخل إطار المملكة المتحدة، حيث صوّت ما يزيد على 55 في المئة لمصلحة استمرار وحدة الدولة البريطانية، واضعين حدّاً لأحلام المراهنين عليه سبيلاً إلى بناء دولة مستقلة من ستة ملايين ونصف المليون نَفْس، ومن اقتصاد شبه ضعيف في محيط من الاقتصادات الأوروبية القوية.
هكذا غلّب أنصار الوحدة، المنتصرون في الاستفتاء، مبدأ المصلحة على المشاعر الاستقلالية التي لا يقلّون عن دعاة الانفصال في التشبّع بها .
تنفست المملكة المتحدة الصعداء بعد الاستفتاء، لا لأنها كانت ستخسر - فيما لو حصل الانفصال - عشرة في المئة من سكانها، وثمانية في المئة من أراضيها ومثلها من اقتصادها، وأسطولها النووي، وقيمة عملتها الجنيه الإسترليني فحسب، بل لأنها قد تخسر، فوق ذلك كله، وحدتها الكيانية حين تدب في أوصالها فكرة الانفصال فتغري مكوّنات أخرى فيها - إلى جانب إنجلترا - بالذهاب في الخيار عينه، مثل إيرلندا الشمالية - التي كانت أبكر في الإفصاح عن الميول الانفصالية فيها - وويلز .
لكن آخرين، من غير البريطانيين، أصابتهم نتائج الاستفتاء في اسكتلندا بالنكسة عينها التي أصابت الانفصاليين في أدنبرة، وهؤلاء كثر في أوروبا وخارجها، وهم كانوا يترقبون الاستفتاء الاسكتلندي بوصفه "بروفة" اختبارية لقياس إمكانات البناء عليه في بلدانهم .
هكذا كانت حال الكاتالانيين المطالبين بالانفصال عن إسبانيا، شأنهم في ذلك شأن الباسك، وهكذا كانت حال الفلامان في بلجيكا، وسواهم ممّن انتعشت في بيئاتهم أحلام الانفصال .
بل هكذا هي حال القيادات الكردية، وأحلامها الانفصالية، في العراق، والدعوات المتنامية إلى انفصال برقة في ليبيا، بعد انهيار الدولة، أو إلى انفصال جنوب اليمن، فمثلما كانت الحركات الانفصالية، أو الاستقلالية، في أوروبا تنتظر انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، كانت الحركات الانفصالية في بلادنا العربية تنتظر الانفصال عينه لتبني عليه، بعد أن شجّعتها على الجهر بمطالبها سوابق الانفصال في إندونيسيا (تيمور الشرقية) وفي جنوب السودان: بتورطٍ مكشوف لنظام "الإنقاذ" في الخرطوم، الذي "أنقذ" البلد والشعب من وحدته!
تعرف المملكة المتحدة ما عليها أن تُقابل به إرادة أغلبية الاسكتلنديين بالبقاء فيها:
المزيد من الإصلاحات السياسية لنظام المملكة يمنح اسكتلندا صلاحيات عدة في مجالات الإنفاق المالي، والسياسات الضريبية، والرعاية الاجتماعية، وسواها ممّا وعد به ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، في خطابه إلى الأمّة .
بل ذلك ما وعدت به لندن الاسكتلنديين، قبل أسبوعين من الاستفتاء، تشجيعاً لهم على التصويت لمصلحة البقاء في المملكة المتحدة، وطمأنةً لهم على أن مصالحهم ستُحفظ أكثر، ويتمّ تعظيمها على نحو أوفر . ولكن المملكة المتحدة تعرف، كذلك، أن هذه الصلاحيات بتوسيع السلطة اللامركزية في اسكتلندا لا يمكن أن يتمتع بها الاسكتلنديون فحسب، من دون سائر البريطانيين، وأن تُحجب عن غيرهم .
ولذلك، فالأرجح أن تُمنح الحقوق إياها لمواطني ويلز وإيرلندا الشمالية، الأمر الذي قد تتغيّر معه شخصية النظام السياسي وطبيعته في المملكة ليصبح - تبعاً لذلك - نظاماً اتحادياً أو أشبه ما يكون بذلك . ذلك هو الثمن الذي قد يكون عليها أن تدفعه للحفاظ على وحدة كيانها في مواجهة مطالب الانفصال من هنا وهناك .
هذه مشكلة الدولة متعددة القوميات . هي مشكلة مزمنة في العالم المعاصر، أخفق في حلّها الاتحاد السوفييتي، والاتحاد اليوغوسلافي، والاتحاد التشيكي السلوفاني . . .، فكانت النتيجة الانفراط والتذرر تحت وطأة المطالبات الانفصالية والاستقلالية، وهي أودت بالدولة العثمانية قبل هذه الدول المتعددة القوميات منذ بداية القرن العشرين الماضي، وقد تُودي بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد عقود، حين تفقد صدارتها الاقتصادية العالمية، ونفوذها السياسي الكوني . بهذا المعنى سيكون على المملكة المتحدة - كما على إسبانيا وبلجيكا - أن تدفع هذا الثمن الضروري الذي دفعته كندا، مثلاً، للحفاظ على وحدة الدولة: إعادة توزيع السلطة والثروة بين مكوّناتها على نحوٍ أكثر توازناً .
انتصرت بريطانيا على الانفصال لأن نموذجها الاقتصادي الاندماجي مُغرٍ، على الرغم ممّا يعتوره من نقص، ولأن نظامها الديمقراطي مفتوح ومستقر . ولكنها انتصرت، أيضاً، لأن درجة الوعي السياسي عالية في اسكتلندا، وعالية معها فكرة المصلحة التي أسّست للتصويت الأغلبي لمصلحة البقاء في المملكة المتحدة .
ولذلك، إذا كانت فكرة الانفصال في أوروبا قد تلقّت نكسةً، ممّا حصل في الاستفتاء الاسكتلندي، فهي لم تُهزم تماماً في بلدٍ مثل إسبانيا، حيث لا سبيل لدى الأخيرة إلى حفظ وحدة كيانها السياسية والجغرافية إلاّ بإطلاق المزيد من الإصلاحات في النظام السياسي، وتمتيع أقاليمها - خاصة إقليم كاتالونيا - بصلاحيات لامركزية أبعد ممّا تتمتع بها حتى الآن: على مثال ما على بريطانيا أن تفعل .