العهر المعتق نبع الرذيلة العلنية
السؤال الرابع : هل للعرب امل في الانتصار والخروج من نفق الكوارث المظلم ؟
قد يتصور البعض بان ما ذكرناه عن التلاقي الستراتيجي الأمريكي - الفارسي - الصهيوني وما حققه من تقدم باننا نعيش عصر الهزيمة الدائمة وهذا التصور خاطئ تماما فان ما اكدناه هو فقط لمعرفة الخريطة الحقيقة لتوزع القوى وتوازناتها .
ان امتنا العربية وقواها الطليعية قادرة على تحقيق انتصارات الان - وقد حققتها فعلا كما سنرى – وستحققها في المستقبل تماما مثلما حققتها سابقا وقبل بدء مرحلة الهزائم ، ولتأكيد ذلك من الضروري تقديم اشارات للتذكير فقط بما يجاول الاعداء دفعنا لنسيانه تحت الضغط الهائل للكوارث العربية المتعاقبة :
قبل كل شيء لابد من الاشارة إلى ان من اهم اسس المخططات المعادية للامة العربية خصوصا الصهيوأمريكية – إيرانية ترويج فكرة ان العرب فشلوا في كل شيء وانهم محكوم عليهم بتكرار الفشل ، وهذه الاطروحة تعتمد على انتقائية مغرضة تتعمد اختيار الهزائم لاثبات ان العرب عاجزين عن تحقيق النجاح ، لكنها تتعمد اخفاء الانتصارات العظمى التي تحققت بالفعل .
وقياس النجاح والفشل اذا فصل عن المرحلة الزمنية للاحداث صار انتقاء معزولا عن سياقه الطبيعي والذي بدونه يصبح التقييم خاطئا ومضرا جدا لهذا فان التقييم الناجح يعتمد على اساس لا غنى عنه ابدا وهو معرفة البيئة التي كانت سائدة وقتها وما يتحكم فيها من مؤثرات ظرفية أو تاريخية . وتلك البديهية تفرض حتمية التطرق ل( متى ) وقع الحدث فهذه ال(متى ) تدخل مستوى الوعي السائد ونوعية توازن القوى والمؤثرات الخارجية والداخلية في موازين القوى ...الخ .
1-ومن بين انتصارات العرب الكبرى حركة الانبعاث القومي العربي المعاصر والتي بدأت في الخمسينيات وبالتحديد عند العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 والذي قامت به بريطانيا وفرنسا واسرائيل وساعد على انطلاق القومية العربية بصورة بالغة القوة غيرت البيئة العامة من المحيط الاطلسي إلى الخليج العربي ،وكان التيار القومي متمركزا وقتها في سوريا التي برزت فيها الطليعة القومية العربية المنظمة وكان لها التأثير الحاسم على توجهات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي بدأ قطريا مصريا وتطور واصبح قوميا عربيا نتيجة تأثره بالتيار القومي العربي .
ربما نرى الان تراجعا للهوية القومية رغم انها اساس وجودنا الانساني ولكن هذا التراجع مرحلي وله اسبابه الموضوعية ولا يشكل نهاية للنضال القومي العربي ، بل ان التراجع الحالي لحركة القومية العربية هو احد اهم الادلة على انها ظاهرة وجودية يستحيل اقتلاعها بدليل ان القوى الكبرى الغربية والصهيونية سخرت كل قواها منذ الخمسينيات خصوصا استخدام حركات وانظمة لتدمير القومية العربية ومع ذلك لم تنجح الا مرحليا . ومن انجازات حركة القومية العربية في عهد القائد التاريخي جمال عبدالناصر وضع اسس انهاء النظام الهجين (نصف الاقطاعي ونصف الرأسمالي) في مصر ونشر افكار الاصلاح الزراعي والتصنيع الثقيل والتحرر من الاستعمار ، وكان انشاء حركة عدم الانحياز ابرز مظاهرها ، ومساواة الانسان ..الخ .
ولو اكتفينا بهذه الانجازات وغيرها كثير لامكننا القول بفخر ان تجربة عبدالناصر كانت ايجابية وخطوة على طريق التحرر الوطني العربي الكامل والشامل وان عناصر الفشل فيها طبيعية لاسباب موضوعية اساسا .
2-والمقاوة الفلسطينية رسخت منذ الستينيات فكرة ان الرد على العدو المشترك ( أمريكا وإيران والصهيونية ) لا قيمة كاملة له ما لم يجعل الكفاح المسلح الوسيلة الرئيسة لتحرير كل ارض عربية محتلة من فلسطين إلى الاحواز مرورا ببقية الاراضي العربية المحتلة .
تراجعت المقاومة الفلسطينية ليس نتيجة خلل بنيوي فيها – رغم انه كان موجودا - بل لانها واجهت تأمرا دوليا وعربيا عليها اكبر من قدراتها وتجربتها لكن انجازها الاكبر كان انها اثبتت عمليا ان اللجوء للمقاومة المسلحة عند مواجهة التحديات الخطيرة التي لا تضع حدا لها الوسائل السلمية ضرورة ستراتيجية عظمى . وهذا الاثبات كان احد اهم مصادر وعي المقاومة العراقية بعد عام 2003 .
3-في العراق رأينا انموذجا يبرز لاول مرة في الوطن العربي حديثا وهو تحقيق طفرات علمية وتكنولوجية هائلة كان قمتها انشاء (جيش العلماء والمهندسين) كما وصفه ديفيد كي رئيس المفتشين الدوليين التابعين شكليا للامم المتحدة والتابع عمليا ورسميا للمخابرات الأمريكية . وبقوة جيش العلماء حقق العراق قفزات نوعية في التصنيع مثل اتناج دبابات ومدفعية وقطع غيارا طائرات واختراع طريقة عراقية في تخصيب اليورانيوم وبناء صناعة ثقيلة واحياء الزراعة لدرجة تحقيق الاكتفاء الغذائي .
ولا نذكر شيئا على الجيش العراقي في العهد الوطني والذي تحول إلى واحد من اقوى جيوش العالم واكثرها مهنية وعقائدية في نفس الوقت لدرجة انه انتصر على إيران وجيشها مع انها اكبر من العراق بثلاثة مرات بالنفوس والقوة العسكرية والاخطر انها امتلكت قوة جبارة في عهد خميني وهي استعداد الاف الإيرانيين للموت بدعوة من خميني وكان ذلك السلاح الجبار كافيا لالحاق الهزيمة بأمريكا والاتحاد السوفيتي ، وقوة الجيش العراقي كانت احد اهم اسباب مسلسل الحروب التي شنت على العراق من اجل القضاء عليه .
اما في المجال الاجتماعي فقد ازالت ثورة 17-30 تموز عام 1968 الامية بشكل كامل في حملة فريدة في الوطن الوطن العربي دامت عشر سنوات ، وذلك بحد ذاته مفخرة للعراقيين والعرب ، كما ان الجوع انتهى بالقضاء على الفقر تماما ونشوء عصر رفاهية لاول مرة في العراق ، وهذا الانجاز بحد ذاته مفخرة اخرى للعراقيين ولم يتحقق في كل الدول المتقدمة التي بقي فيها فقر وعيش تحت خطه ، وانتقل العراق إلى مرحلة التقارب بمستوى التطور الحضري مع اكثر بلدان العالم تطورا ، وذلك وحده مدعاة للفخر .
وقدم العهد الوطني انموذجا رائعا للرابطة القومية العربية عندما قدم دعما ماليا وعلميا واداريا للكثير من الاقطار العربية واعتبر ان لبقية العرب حصة من ثروات العراق وشمل ذلك موريتانيا واليمن والسودان وغيرها . وانتشر علماء العراق في اقطار عربية عديدة يعلمّون ويبنون المعامل والمدارس والطرق الحديثة والمستشفيات ويعالجون المرضى ..الخ . وهذا التطور النوعي في العراق كان السبب الرئيس الذي اجبر أمريكا واسرائيل على ايصال خميني للحكم ودفعه لشن حرب على العراق واعداد ازمة الكويت لتكون قنبلة تدمير للعراق وتمهيد لغزوه .
النتيجة الاكثر اشراقا هي لو كان العرب فاشلون وبلا نجاحات كبرى لما اجبرت أمريكا ومعها دول اوربية للقيام بشن حرب عالمية على العراق بدأت في عام 1991 ومازالت مستمرة حتى الان وكانت تلك الحرب السبب الرئيس لانكشاف العيوب البنوية للنظام الرأسمالي الأمريكي وهزيمته امام المقاومة العراقية الباسلة . فمن هزم أمريكا ليس الاتحاد السوفيتي ولا الصين بل المقاومة العراقية وهذا بحد ذاته مفخرة كبرى للعرب وليس للعراقيين وحدهم .
4-واخيرا وليس اخرا فان مجرد صمود القومية العربية كل هذه العقود رغم التفوق النوعي للاعداء في الجوانب المادية كالعلم والتكنولوجيا والمال والخبرة والاعداد والعدد ، هو انتصار كبير للامة العربية فلو واجهت فرنسا أو بريطانيا ربع ما واجهه العراق لانهاراتا باسابيع . ولو اخذنا الحرب العالمية الثانية كمثال يؤكد ما نقول فان بريطانيا وفرنسا لن تصمدا اكثر من اسبوع بوجه الحروب التي شنت على العراق خصوصا وان سلاح الحرب العالمية الثانية كان بدائيا مقارنة بسلاح الحرب العالمية التي تدور منذ عام 1991 وحتى الان وهو سلاح متطور جدا وخطير الفعالية ولم يستخدم في اي حرب قبل شن الحرب العالمية ضد العراق ، مما يجعل قدرات القومية العربية على الصمود والمقاومة اكبر بكثير من كافة شعوب اوربا الغربية وأمريكا الشمالية .
ونكرر ما قلناه مرارا ان أمريكا واوربا لا تنغمسان في حرب عالمية هي الاكبر والاكثر تكلفة والاخطر في التاريخ الانساني من اجل دولة فاشلة ومهزومة أو ضد حركة قومية ضعيفة ، فتلك الفكرة اهانة لقوة التحالفات المعادية للعراق وتقزيم لقوتها والتي ظهرت في نجاحها في تحقيق انهيار سهل للاتحاد السوفيتي .
ولو قورن العدوان الثلاثي الذي قامت به بريطانيا وفرنسا واسرائيل ضد مصر في عام 1956 بالعدوان الثلاثيني على العراق لادركنا ان تغيرا جذريا في الظروف قد حصل لصالح العدو المشترك فمعركة صغيرة وثانوية واحدة من معارك العدوان الثلاثيني وما بعده على العراق اكبر واكثر قسوة من كل حرب عام 1956 على مصر ، ومع ذلك تحملت الطليعة القومية العربية في العراق العبء وواصلت الكفاح بكافة اشكاله لطرد الاحتلال الأمريكي والإيراني .
مصر عام 1973 اثبتت في حرب اكتوبر – رغم طبيعتها التحريكية - ان العربي اقدر من الاسرائيلي عندما تتوفر له البيئة ويكون هناك نظام مستعد للاعداد الجدي للحرب ، والعراق استفاد كثيرا من الاخفاقات في التجربة الناصرية وتجنبها في بناء التجربة العراقية ولذلك كانت تجربة العراق انجح من تجربة مصر ليس لان العراقي اقدر من المصري فكلاهما يتمتعان بنفس التكوين في الهوية والقدرات ولكن نتيجة تراكم الخبرة واستخدامها في مواجهة الاعداء .
النصر اذن تحقق مرات ومرات وكان هو السبب في اضطرار القوى المعادية للامة العربية ( إيران واسرائيل وأمريكا ) لانشاء تحالفات دولية واقليمية لم يسبق لها مثيل حتى في الحربين العالميتين الاولى والثانية ضد العراق ومقاومته الباسلة ، وهذه الخطوة اعتراف مباشر ورسمي بان القومية العربية قوة جبارة من الصعب القضاء عليها من دون تناسي وجود خلافات بين دول وقوى عديدة اضطرت للاتفاق ضد حركة التحرر الوطني العربية وطليعتها الباسلة المقاومة العراقية المسلحة .
الطليعة القومية تتقدم وتعزز دورها وليس العكس رغم الاختلال الهائل في موازين القوى والنصر ليس هدفا مباشرا زمنيا نتيجة ما تقدم بل هو نتيجة لابد منها في نهاية الحرب الطويلة التراكمية النتائج ويكفي صمود المقاومة العراقية ما يقارب الـ12 عاما في بيئة ليست في صالحها لتأكيد انها حركة تاريخية مقتدرة وليس فاشلة .
الحلقة الأولى والثانية